آراء متنوعة

كامل إدريس والعبور الوهمي نحو السودان المدني

كامل إدريس والعبور الوهمي نحو السودان المدني

أحلام مؤجلة
في زمنٍ تتآكل فيه الخرائط، وتنهار الدولة قطعةً قطعة، يخرج الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء المعيَّن في حكومة ظلّ، بخطاب أراده إعلانًا عن انطلاق مشروع مدني، لكنه بدا أقرب إلى عرضٍ خارج الجغرافيا وخارج الألم، كأنما لا يخاطب وطنًا محاصرًا بالدمار، بل يرسم لوحة خيالية خالية من التفاصيل. بدا الخطاب سردية ناعمة لإنكار الجرح، لا محاولة واقعية لإنقاذ وطن غارق في النار. بكلمات منمّقة وتعبيرات شاعرية، حاول الرجل أن يرمم ما لا يُرمم، وأن يغطي وحشية الواقع بلغة الحلم. لكن الأوطان لا تُبنى بالمجاز، ولا تُدار بالبلاغة. تنهض الأوطان بإرادة المواجهة، وبشجاعة تسمية الأشياء بأسمائها.

منذ بدايته، انطلق خطاب إدريس من وهم أساسي: أن اللغة وحدها قادرة على صناعة واقع بديل. تحدّث عن “حكومة الأمل”، وعن بناء وطن شامخ واستعادة الدولة وتضميد الجراح، دون أن يتوقف عند الجرح نفسه. لم يخبرنا من أين يبدأ مشروعه، ولا كيف ينتهي، ولا ما إذا كانت حكومته ستقيم العدالة قبل المصالحة، أم أنها ستعيد إنتاج الصيغة القديمة: العفو مقابل الاستقرار، والسكوت مقابل الشراكة. هذه اللغة ليست سوى مراوغة ناعمة. فحين يغيب تحديد مراكز القوة العسكرية، وطرق ضبطها وإعادة بنائها، نكون أمام راوٍ لمأساة وطن بلا أدوات للخلاص.

لقد تحوّل خطاب إدريس إلى ما يشبه صكّ غفران جماعي لكل من تورط في الجرائم والانتهاكات. كأنما يريد أن يضع الجلاد والضحية على طاولة واحدة، دون الاعتراف بما جرى بينهما. هذا النوع من الخطاب يُكرّس ثقافة الإفلات من العقاب، ويُهين كرامة الآلاف من أسر الضحايا في دارفور والخرطوم وكسلا ونيالا وغيرها. فما جدوى الحديث عن وحدة وطنية دون مساءلة؟ وما معنى تجاوز الماضي دون اعتراف بالحقائق ولا عدالة للضحايا؟

◄ السودان لا يحتاج إلى دبلوماسي يفاوض على جثة وطن، بل إلى قيادة شجاعة تعرف أن الطريق إلى المستقبل لا يمر عبر الأوهام ولا عبر الأمل الكاذب

ويزيد من هشاشة الخطاب، غيابه التام عن أيّ ملامح تنفيذية أو جداول زمنية أو خطة واقعية. هو حديث عن أحلام مؤجلة: إصلاح اقتصادي، عدالة اجتماعية، بناء مؤسسات، جذب استثمار، تطوير التعليم.. لكن: كيف؟ ومتى؟ وبأيّ أدوات؟ لا شيء. في بلد يعاني من التضخم المفرط، وانهيار الخدمات، وتآكل مؤسسات الدولة، لا يكفي التمنّي. الطموح لا يتحوّل إلى مشروع إلا إذا ارتبط برؤية واضحة وخطوات عملية.

ثم تأتي الكارثة الأكبر: لم يتطرق كامل إدريس لا تصريحًا ولا تلميحًا إلى خطة لوقف الحرب الجارية، ولا إلى آلية التفاوض، ولا مع من سيتفاوض، ولا تحت أيّ سقف، ولا ما هي ضماناته ومبادئه. لم يخبرنا إن كان يملك خطة لوقف إطلاق النار، أو تصوّرًا لدور الجيش السوداني، أو أدوات ضغط على الأطراف المتحاربة. كيف لرئيس حكومة، ولو كانت رمزية، أن يُعرض عن أهمّ ملف يهدد بقاء البلاد؟ بينما المدن تذبح، والملايين يهجّرون ، يمر الخطاب على النزيف بصمت قاتل.

الفراغ الأكثر خطورة تمثّل في تجاهل واقع الجيوش المتعددة، وتضارب الولاءات، وتفكك منظومة القوة. لم يخبرنا عن رؤيته للتعامل مع الميليشيات التي نشأت خارج المؤسسة العسكرية، ولا عن مصادر تمويلها، ولا عن ارتباطاتها الخارجية والداخلية. لم يقل لنا: هل سيكون مسؤولًا عنها منذ لحظة إعلان حكومته؟ وهل سيسعى لدمجها تحت قيادة موحدة؟ أم ستبقى كيانات مستقلة تعمل بتمويل وتنظيم وإدارة خاصة؟ إن تجاوز هذا السؤال يعني الانسحاب من فكرة الدولة نفسها، لأن لا دولة تُبنى على هذا التشظي.

ويتمادى الخطاب في ما يمكن تسميته بـ”الحياد الخادع”. إذ يحاول إدريس الظهور في صورة التكنوقراط النزيه القادم من مؤسسات دولية محايدة، غير ملوّث بنزاعات الداخل. لكنه في الحقيقة ليس محايدًا، بل هو جزء من بيئة سياسية أنتجت هذه اللحظة. أخطر ما في هذا الادعاء أنه يُقدّم الحياد كبديل عن الانحياز للعدالة. لا حياد ممكن بين الجلاد والضحية، ولا بين من يحمل السلاح ومن يسعى للمدنية. الحياد في زمن الج#ريم*ة هو تواطؤ ناعم.

◄ خطاب إدريس انطلق من وهم أساسي: أن اللغة وحدها قادرة على صناعة واقع بديل. تحدّث عن “حكومة الأمل”، وعن استعادة الدولة وتضميد الجراح، دون أن يتوقف عند الجرح نفسه

الأدهى أن كامل إدريس لا يمثل انقطاعًا عن ماضي الانهيار، بل هو امتداد له. لم يأت من رحم ثورة، بل من دوائر كانت شريكة – مباشرة أو ضمنيًا – في صمتها على جرائم النظام، وربما حتى في تواطئها مع أمراء الحرب ومنظومات العن*ف. لقد سعى، بترشحه، إلى منح النظام البائد والحالي مشروعية جديدة، لا إلى تفكيكه. الكثيرون ممن يدعمون خطابه اليوم هم أنفسهم من موّلوا الميليشيات أو احتضنوها، ولا يزال بعضهم يحتفظ بروابطها المالية والتنظيمية حتى بعد أن تحولت إلى أدوات للنهب والاغ*تصا*ب.

أما ما قيل عن العلاقات الخارجية، فكان مجرّد عبارات ميتة. تحدّث عن “دبلوماسية السلام” دون أن يوضح ما تعنيه، ولا كيف سيتعامل مع المحاور الإقليمية، ولا عن مواقف السودان من قضايا الجوار (مصر، إثيوبيا، الخليج)، ولا عن التنافس الدولي على الموانئ والذهب. هذا الصمت ليس حيادًا، بل إفراغ للسياسة من مضمونها.

الأمر ذاته ينطبق على هوية الدولة التي يتحدث عنها. هل هي دولة علمانية؟ مدنية بمرجعية إسلامية؟ فيدرالية؟ مركزية؟ لا نعرف. لم يحدّد حتى مدة حكمه، ولا من يملك صلاحية إقالته، ولا الجهة التي منحته تفويضًا. الصمت عن هذه الأسئلة لا يمكن قبوله. إنه تخفٍّ وراء اللغة، ومحاولة تمرير مشروع بلا مساءلة.

في المحصلة، لا يحمل خطاب كامل إدريس مشروعًا لبناء الدولة، بل وصفة ناعمة لإعادة إنتاج العطب. إنه خطاب ترميم لفظي، لا تأسيس سياسي. لا يسمي القاتل، ولا ينصف الضحية، ولا يرسم خارطة الخلاص. وما يحتاجه السودان اليوم ليس بلاغة شعرية، ولا حيادًا أخلاقيًا، بل شجاعة قول الحقيقة، وموقف أخلاقي لا يساوي بين من نهب وق*ت*ل ومن قاوم وبنى.

السودان لا يحتاج إلى دبلوماسي يفاوض على جثة وطن، بل إلى قيادة شجاعة تعرف أن الطريق إلى المستقبل لا يمر عبر الأوهام ولا عبر الأمل الكاذب. ففي زمن الج#ريم*ة، الحياد ج#ريم*ة. وفي زمن النزيف، الصمت خيانة.

د. عبدالمنعم همت
كاتب سوداني مقيم في الإمارات

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!