الحوار الهاديء

محاورة إلكترونية مع غبطة البطريرك لويس ساكو

الكاتب: لويس اقليمس
محاورة إلكترونية مع غبطة البطريرك لويس ساكو
لويس إقليمس
 
سيدي الجليل غبطة البطريرك لويس ساكو.
أعزّكَ القادرُ على كلّ شيء وأدامَ ذخرك، وأرشدَك وإخوتَك، نظراءَك ومعكم رؤساء أساقفة وأساقفة ومهتمّين من كنائس ومن نشطاء مدنيين ومسؤولين في الدولة ومثقفين ومتنورين وكلّ مَن يهمّه شأن المسيحية وما تبقى من المسيحيين في العراق الجريح المتألّم. عذرًا، قد أعطي الحق لنفسي، كونكم زميلاً وصديقًا وقائدًا مسيحيًا وطنيًا منفتح الجوانب والمواهب، كي نتحاور بصيغة الكتابة المفتوحة التي بها أعبّر عن مكنونات ذاتي وبها أنقل ما أعتقد وما أراه مناسبًا وملائمًا لحيثيات الكتابة والطرح، كي يطّلع عليه المهتمّون، فلا يبقى طيّ الكتمان وبين الجوانح. فالمطروح ليس سعيًا شخصيًا، بل شأنًا مسيحيًا عامًا وأمنيةً يعلّق عليها الكثيرون آمالاً بمستقبل واضح: نكون أو لا نكون. فالمسألة هي مسألة وجود وتحقيق هوية، فبقاء أو انقراض!
سيدي الجليل، مضت أيام وأسابيع، بل وأشهر على آخر لقاء، وكان الثاني الشامل، لمشروع أو مبادرة تشكيل مرجعية مسيحية تجمع الشمل وتوحد الخطاب المسيحي وتنقذ المتبقي من الموجود. تمنيناها مرجعية مسيحية سياسية بغطاء كنسيّ جامع، لها ملء الصلاحيات ومخوَّلة من جميع المراجع الكنسية، ومتحدثًا رسميًا باسمها وباسم كافة الطوائف والفعاليات المسيحية المدنية. فقد سئمنا العمل الانفرادي لكل مرجعية وكذا الحراك السياسي المنقوص لأحزاب لم ترقى إلى مستوى العزم والهمّة والتسامي، بل بقيت تراوح في حدود المصالح الشخصية والقومية والفئوية الضيقة التي أبقت الشعب المسيحي أسير أحزاب متنفذة وكتل سياسية فرضت أجندتَها علي قياداتها المسيحية. وهذا شيء مؤسف للغاية، شعر ويشعر به، حتى المواطن البسيط الذي لم يكن يهمّه الشأن السياسيّ. فتناثرُ الجهود وتبعثرها من خلال التفرّد أو بغية نيل مكاسب جزئية وفئوية محدودة وبنطاق ضيّق لم ولن يخدم الشأن المسيحي ولن يصبّ في خانة استعادة دورهم المفقود في المعادلة السياسية القائمة.
سيدي الجليل، يأتي اتفاق الآراء المجتمعة في اللقاءين السابقين التاريخيين برعايتكم، بداية صحيحة في اتجاه لمّ شعث الفعاليات المسيحية المتناثرة بغير انتظام، بسبب تعدّد الولاءات ومصادر التمويل التي تكاد تكون محصورة بجهة وحيدة في كردستان، تهيمن على الشارع والحكومة والدولة وتفرض الرأي والأجندات وتسعى للمزيد. فالمرجعية المسيحية المؤمَّلة ضمن مبادرة غبطتكم التي علا بيرقُها كأمنية بدعمٍ من نخب خيّرة لأصحاب الفكر وبناة الثقافة ومحبي الوطن بعد تبلور فكرة المبادرة وصلاح النوايا ووجود الإرادة، نعتقد أنها الفرصة الأخيرة لتعزيز الوجود المسيحي والمطالبة بكامل الحقوق الوطنية غير المنقوصة، بفضل همتكم العالية بصورة خاصة وبفضل الكارزمية التي تفرضها شخصيتُكُم الوطنية والكنسية الجامعة، غيرَ متناسين الجهود الشخصية الضيقة لنظرائكم وإخوتكم في مجلس أساقفة العراق الذي يفتقر هو الآخر إلى عنصر رئاسيّ، كما هي عليه حال الطوائف المسيحية في لبنان برعاية مارونية قوية ومؤثرة. فمسيحيو العراق، يفتقرون إلى الحدّ الأدنى من مثل هذا الكيان الوطني الذي يرسي لفرض وجود المكوّن المسيحي المهمّ والأصيل الذي كان ينبغي أن يكون شريكًا أساسيًا في المعادلة السياسية كحال سائر الفرقاء الدينيين الذين يفرضون ما يشاؤون من قوانين على هذا المكوّن المسالم بسبب افتقاره لمرجعية موحدة تلجم أفواهَ المتجاوزين على الشعبِ المسيحي وحقوقه وتطلعاته، ومنها حقُّه في تقرير المصير كسائر المكوّنات التي تحكم وتوجّه وتتحكّم بمقدّرات الدولة وسياستها على هوى دينها وطوائفها وتشكيلاتها.
إنّ اللجنة التنظيمية الخماسية التي تمّ اختيارُها من قبل المجتمعين، لتهيئة الأمور اللوجستية وبيانات العمل وإعداد المواضيع ذات الأهمية والأولوية بشأن الواقع المسيحي المتألّم، ما تزال تعلّق آمالاً كبيرة على مفردات المبادرة، وتأمل تحقيق لقاء قادم قريبًا جدًّا، يكون حاسمًا في تحديد المواقف والتأييد له أو الاختلاف معه. وحينها، سيكون لكلّ حادث حديث في حالة فشل هذه المبادرة، وسيصير التحرّك في غير ما يشتهيه عموم المسيحيين الداعمين لوحدة الصف والكلمة والجهود! وتلك ستكون نهاية الجهود الجامعة وخسارة الجميع من دون استثناء.
إننا إذ نقدّر عاليًا، انشغالاتكم في مؤتمرات ولقاءات خارج الوطن وفي الداخل، ونثني على الدور الفاعل لكم ولإخوتكم وكلّ مَن ساهم في التعريف بالواقع المرّ وكشف الآلام والمآسي والصعوبات التي يعاني منها بقايا أهلنا وأحبتنا في العراق الجريح، فإننا ندعوكم في هذه الأيام، وأنتم تجتعمون للصلاة التقليدية من أجل وحدة المسيحيين، أن تكونوا على قدر العزم الذي عهدكم به الشعب العراقي عامة، والمسيحيين خاصة. فالزمن الغادر يتسارع، والمشاريع الفئوية والطائفية تتسع مساحتُها والأحزاب المحسوبة على المسيحية تتلوّن بحسب المصالح ويتضح ولاؤُها الفئويّ والحزبي والعرقيّ لجهات تحاول استغلال الحاجة والفاقة والضعف في الإرادة البشرية لنفرٍ مستعدّ للتضحية بمصالح عامة من أجل منافع شخصية وفئوية ضيقة. في حين أن عموم الشعب ما زال ينتظر بفارغ الصبر إيجاد حلولٍ شافية وواقعية وحتمية للهوية المسيحية الآيلة إلى الانقراض والضمور في حال تواصل نزيف الهجرة القاتل واستمرار الظروف المأساوية على حالها، بل المتجهة نحو الهاوية يومًا بعد آخر.
سيدي الجليل، إنّ انصباب اهتمامكم على تأسيس الرابطة الكلدانية وتسريع انتشارها والتعريف بها كي تلمّ شعث الأنشطة الكلدانية وتشتتَها، كان في محلّه وموضع ترحيبٍ ليسَ من قبل المعنيين بالشأن الكلداني فحسب، بل قد نالت استحسان إخوتكم في كنيسة العراق وفي الشتات. وبالرغم من تأسيسها بتلك العجالة، وكونها جزءًا من المشكلة في كنيسة العراق وليس جلّها، إلاّ أنّ الملاحظ حصرُ معظم أنشطتكم مؤخرًا في تعزيز هويتها الطائفية باعتبارها وعاءً للأغلبية المسيحية في العراق والمنطقة، على حساب المشروع الوحدوي الكبير الذي كان يفترض إيلاؤُه الأولوية على سائر غيره، كما أُشيع في الآونة الأخيرة. وبالرغم من عدم قناعتنا، بما سمعناه وأشاعه البعض من الشخصيات الكنسية والمدنية على السواء بخصوص مسألة التفرّد في الحراك وتقريب التوجّه الطائفي على الصالح العام للشأن المسيحي، فإننا على يقين أنّ آفاقَكم أرفع وأبعد ممّا سمعناه. بل إننا على ثقة تامة أن غبطتكم مازلتم عند وعدكم بتحقيق تشكيل هذه المرجعية السياسية الجامعة التي من شأنها وضع حدّ لتبعثر الجهود واختيار الصلح لتمثيل الشعب المسيحي حين تقتضي الظروف وتتطلب الحقوق والحاجات. ونحن مدركون أيضًا، للعقبات والعثرات التي يثيرُها البعض ويضعونها في طريق إنجاز هذه المبادرة التي دعمناها كما دعمها العديدون من النخب الكنسية الوحدوية والمدنية والعلمانية من جميع الكنائس والطوائف.
وإذا كانت بعض المراجع الكنسية التي تلتفّ حول أحزاب “قومية مسيحية”، ومعها قيادات هذه الأحزاب واخرى غيرُها وأتباعُهم، يرون في مبارتكم سحب البساط من تحت سيطرتها وتخشى إضعاف أجندة مَن يموّلها، فهذا قد أصبح مكشوفًا للجميع، مؤكدين وقوفَنا مع مبادرتكم الجامعة المنطلقة من بغداد حصرًا. فأغلب المبادرات بل جميعُها، التي انطلقت من خارج القبّة الكنسية ومن خارج الإجماع الكنسيّ، قد فشلت وحوّلت المشهد السياسي والاجتماعي للمسيحيين إلى مآسٍ وويلات، بسبب تبعيتها وعدم استقلاليتها في قرارها. فالكنسية عندما تلقي بدلوها وتفرض ثقلَها، من شأنها صنع العجائب وكسر القيود وفتح النوافذ والأبواب المغلقة. وهذا ما نرتقبُه من تشكيل المرجعية السياسية المسيحية التي نصرُّ على رؤيتها النور، بالرغم من المعوّقات.
لقد آلمني أن نسمع كلامًا غير سديد، بخصوص تفرّدكم بزيارات المسؤولين في الدولة أو حضور المؤتمرات والحلقات النقاشية على المستوى الدولي والدينيّ، بالرغم من جزم اعتقادي بعدم تفريقكم بين طائفة وأخرى في مثل هذه الزيارات. والدليل زياراتُكم المتكررة والمتنوعة لشرائح مختلفة وشخصيات عامة وخاصة، وما تجود به يدُكم الكريمة في تقديم العون للجميع من دون تمييز،حسب علمي. على أية حال، لن أخوض جريًا في الدهاليز والأروقة المظلمة. فالكلّ عارفٍ بالأمور، مصادرُها ومراجعُها وبناتُ أفكارها. وكلّ ما أودّ القول، وهذا ما أعتقد يتفق عليه الجميع، أنه لا يمكن اختصار الوجود المسيحيّ بطائفة معينة على حساب البقية، بحجة الأغلبية والأكثرية. فهذا ديدنٌ وروايةٌ وإيغالٌ في التباعد والاستبعاد في المتبقي المنحسر من الوجود المسيحي، أيًا كان حجمُه أو لونُه الطائفي والطقسيّ، وهو لا يقود سوى إلى الهاوية وإلى المزيد من التباعد وليس إلى الوحدة المرتقبة التي يتمناها الجميع، ونلتقي للصلاة من أجلها في مثل هذه الأيام.
بالحق، أعتقد، وكما يعتقد غيري، أنّ غبطتكم، شخصية كارزمية لا غبارَ عليها، ومَعلمٌ ثقافيّ ووطنيّ وكنسيّ بارز يشهد له القاصي والداني، وأحجيّةٌ في الردّ والمدافعة والإقناع، ما ذهبَ إليه شريط الأخبار والمرئيات والسمعيات والمدوّنات والكلمات التي تسري كالذهب الزلال في قلوب ونفوس المحاورين والمستمعين والمشاهدين والمناظرين، من جميع الأديان والمذاهب والملل، بل وفي خارج حدود الوطن.
لذا ومن هذه المنطلقات، لن أقف في صفوف المعترضين على أنشطتكم المتصلة والمتواصلة لصالح الأيادي الضارعة في بلادي، والمتلهفة لكلّ نسمة هواء عليلة صيفًا وإلى كلِّ نفحة زفيرٍ ساخنة في شتاءاتنا القارسة، وهي ما يعانيه اللاجئون هذه الأيام من دون ما يقيهم شرّها وبلاياها.
سيدي الجليل، إن موضوع الأكثرية والأقلية، أسفينٌ عميقٌ وسكّةٌ خطيرة وفتنة كبيرة لا ينبغي السماح بسماعها أو القبول بتدوالها أو الحديث عنها أصلاً، ببساطة لأنها أصل الفتنة في العراق. فما حصدناه بسببها، هو الذي جلب الوبال والويلات وأوصلنا إلى هذه الأوضاع الكارثية. فهي فتنة مدمرة ما بعدها فتنة، وخطيئة عظمى، لو كنتُ في مقام كهنوتكم، لما غفرتُها لحاملها، بالرغم من أننا في “سنة الرحمة”. لأنّ الرحمة التي تدمّر النفس والقلب والبشر والمجتمع والبلد والعالم، لا يحق تسميتُها بالرحمة ولا تليقُ ممارستُها. فهي مجاملة على حساب حقوق الأبرياء والمتألمين والمسحوقين، واستصغارٌ بتطلعاتهم الطبيعية، ومماطلةٌ في إيجاد الحلول لأوضاعهم المأساوية، وتسويفٌ لحقهم في تقرير المصير وبحياة حرة كريمة في ديارهم ووسط أحبائهم، وبتمتّعهم بأموالهم وممتلكاتهم المسلوبة ظلمًا وغدرًا وإهانةً. فهل نضيف على مصاعبهم ومصائبهم وهمومهم، أثقالاً أخرى تستهزأ بكيانهم وتنزل من قدرهم البشريّ، وقد خلقهم الله أحرارًا على صورته ومثالِه؟
من هنا، أدعوك سيدي الجليل، للعمل المثابر كما عهدناك دومًا، وبالتنسيق المتواصل مع إخوتك في مجلس الأساقفة الموقر، لتنهي بذلك كلّ “حديث سفيه”، على حسب قول بولس رسول الأمم، وتكمّ الأفواه العابثة من غير دليل ولا قرين ولا رقيب. ف “كبيرُ القوم، مَن يخدمُ وليسَ مَن يُخدم”. وكذا عظيمُهم مَن يسترشد ويسأل ويستشير ويجمع وينسّق ويُشرك، تحاشيًا لكلّ فهمٍ ناقص وكلامٍ ناقد وحديثٍ جارح. وأنا مقتنعٌ أنّ نظيرَيك الجليلين في أرض الوطن، ومعهم إخوتكم في الأسقفية والكهنوت، سيكونون خيرَ معين لك ومن الداعمين لحراكك الوطني الصادق، لكونك الأكثر نشاطًا والأقرب إلى إيصال الأفكار والمظالم، في ضوءالخطوات النشطة التي تفوق قدرات غيرك وطاقاتهم في هذا المجال وفي غيرِه، كما أثبتت الوقائع. ونحن نسعى في لقائنا العام المرتقب وضع هذه التمنيات حيّز الواقع وتحديد المواقف من المبادرة. كما سأحاول مع زملائي في اللجنة الخماسية لهيئة الرأي من تكثّيف
لقاءاتنا مع أصحاب الشأن لتقريب وجهات النظر وتحديد المواقف، سعيًا وراء التوصل لطبيعة هذه المرجعية في القريب العاجل.
خطواتُكم الجليلة، وتحرّكاتُكم الملحوظة، وقدراتُكم في الإقناع والتأثير، لها وزنُها وشأنها ومقدارُها في الأوساط السياسية في الداخل والخارج، وكذا في الوسط المجتمعي والدينيّ، مرجعًا أصيلاً لا ينكر وزنُه ومقدرتُه وجدارتُه وشخصُه.
هكذا عرفتُك وأعرفُك، وإليك ألقي بظلال هواجسي ممّا سمعتُ وأسمع. وليكن الردّ على قدر العزم الذي عهدناك به، لوضع النقاط على الحروف قبل صلاتكم الجماعية القادمة هذه الأيام من أجل الوحدة المسيحية التي تشهدُ تباعدًا وانحسارًا. فكلّما خطا الشعبُ خطوة نحو الرغبة بتحقيقها، تراجعت مراجعُنا الكنسية خطوتين إلى الوراء. حتى الاتفاق على توحيد الأعياد، وهذا ليس فيه سرٌّ لاهوتيّ ولا يحمل عقيدة مسيحانية أو كرستولوجية، عانى هو الآخر من تلكؤ ومماطلة وتسويف، حيث سنشهد هذا العام تباعدًا في مواعيد ذكرى آلام المسيح وصلبِه وقيامته وصعوده. وهذا ضدّ رغبته الربانية! فإذا كانت هذه هي الحال، فإنّ البتّ في هذه الرغبة الربانية والإصرار على تحقيقها، عملاً برغبة الربّ وبناءً على أمنيات الجميع، من شأنها كشف النوايا الخفية إن وجدت. ف “الرُّوحُ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله”، بحسب قول مار بولس. أمّا إذا كانت الخلافات ستبقى وتتكرّر، وإذا أصرَّ كلّ طرفٍ على فكرِه ورأيه وتمسّك بكرسيّه وأحقية طائفته وأصالة طقسِه دون غيره، فلا داعي للاجتماع “كعادة الوثنيين وسائر الناس الذين لا رجاءَ لهم”.
وأختم حديثي هاتفًا مع رسول الأمم بولس: “فإِذا كانَ فيكم حَسَدٌ وخِصام، أَفَلَيسَ في ذلِكَ دَليلٌ على أَنَّكُمِ بَشَرِيُّون وأَنَّكُم تَسيرونَ سِيرةً بَشَرِيَّة؟”
 
لويس إقليمس
بغداد، في 14 كانون ثاني 2016..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!