مابين لميعة عباس عمارة والشريف الرضي: عشقُ الشعر أم
اشارات تحريضية / شوقي كريم حسن
العشق الذي لا تحكمه حدود الزمان والمكان، والذي ينمو في ظلال الكلمات، قد يكون أصدق أنواع العشق، وأكثرها نقاءً وسموًا. حين قرأت الشاعرة لميعة عباس عمارة شعر الشريف الرضي، لم تقرأه بعين الناقدة أو المتذوقة للشعر فحسب، بل قرأته بقلب العاشقة التي وجدت فيه صدى روحها، وكأنها تعيش معه حالة وجدانية لا تنتمي لعصرٍ معين، بل لعالمٍ تتلاقى فيه الأرواح وتتواشج المشاعر دون أن تلتقي الأجساد.
لم يكن الشريف الرضي مجرد شاعر في نظر لميعة، بل كان حالة شعرية متكاملة، تتجسد فيها العفة في أبهى صورها، حيث الحنين لا يتحول إلى لوعة جارحة، والشوق لا يهبط إلى الرغبة الفجة، بل يظل مرفرفًا كطائر يترنم بأغنية الحب دون أن يُلامس الأرض. في إحدى لقاءاتها، أفصحت لميعة عن حبها الكبير لشعر الشريف الرضي، وكيف كانت تشعر بأنه الأقرب إلى وجدانها من كثير من شعراء عصرها، بل وحتى من كثير من الرجال الذين عرفتهم. لم يكن حبًا شخصيًا بقدر ما كان تماهياً مع روحه الشعرية، وانجذابًا إلى ذلك الصفاء العاطفي الذي ميّز غزله.حين نقرأ شعر الشريف الرضي ندرك بوضوح ذلك الغزل الذي لم يكن مجرد تغنٍّ بالمح*بو-بة، بل كان نشيدًا داخليًا للروح وهي تتوق إلى اكتمالها العاطفي، لكنه اكتمال لا يتجاوز عتبة العفة، ولا ينكسر أمام نزوات اللحظة. يقول الشريف الرضي في واحدة من أروع غزلياته، وهو يرسم صورة للحب المتأجج في القلب دون أن يتجسد في لقاء:
“إذا غابَ عَنهُ الصّبْرُ عَادَتْ دُمُوعُهُ
إلى مُهْجَةٍ تَشْكو وَجِيبًا مُلَزَّما”
هذا البوح العاطفي، حيث الدموع تسبق الاعتراف، وحيث اللهفة تأخذ شكل وجيب القلب، هو ما شدّ لميعة إلى عالم الشريف الرضي، فوجدت في أشعاره نموذجًا للحب الذي لم يُدنّس بالرغبات الأرضية، بل بقي في مدار الروح، يحترق دون أن ينطفئ.
في قصيدة أخرى، يرسم الشريف الرضي صورة العاشق الذي يكتم شوقه، ويعيش على الذكرى، حتى ليكاد الشوق يكون حجابًا يحول بينه وبين الحياة:
“بِشَوْقٍ يُذيبُ الحَشْوَ والشَّوقُ صابِرٌ
وَحُبٍّ يُرِيني في الظَّلامِ العَجائِبا”
هنا، لا يعود الحب مجرد إحساس، بل يتحول إلى تجربة روحية، تتخذ أبعادًا صوفية، حيث يتحمل العاشق الألم بصبر، ويكتفي بوهج الذكرى، وكأن العشق نفسه أصبح طقسًا من طقوس العبادة. وهذا ما لامس وجدان لميعة، التي كانت ترى في الحب حالة وجدانية لا يشترط أن تتحقق في الواقع، بل يكفي أن تبقى متقدة في القلب، مضيئة كما لو كانت نجمة لا تذوي.
لميعة، في كثير من قصائدها، تبنت ذات الرؤية العاطفية، حيث الحب عندها هو مزيج من اللهفة والصبر، من الاحتراق الداخلي والصفاء الروحي. حين قالت:
“لم أخبرك أني رأيتك في شفافية الماء
ولا أني سمعتك في رفيف الأجنحة
أخاف أن أحبك، أخاف أن تلمسني
فتصير شفافيتي ماءً في راحة يدك”
كان هذا الشوق الشفيف، الذي يخشى اللقاء حتى لا يفقد نقاءه، امتدادًا طبيعيًا لما وجدته في شعر الشريف الرضي، ذلك العشق الذي يشتعل داخليًا دون أن يحرق نقاءه.
أما في قصيدته الشهيرة، حيث يخاطب مح*بو-بته بنبرة العاشق المعذب، المتبتل في محراب الحب، الذي يأنس بالشكوى لكنه لا يفصح عن ذاته إلا لمن يفهم دلالاته العاطفية، فيقول:
“سَقى اللَهُ أطْلالاً بِمَكَةَ سُقْيَةً
يُراعُ إِذا ما المُزْنُ أمْسَى وأَصْبَحا”
هنا، تبدو المناجاة قريبة من البوح الصوفي، حيث يستدعي الأماكن القديمة كأنها بقايا عشق لم يندثر، لكنه اتخذ هيئة الذكرى، وهذا ما يشبه تمامًا رؤية لميعة للحب، حين كانت تكتب عنه كأنه ظل لا يزول، لكنه يبقى بعيدًا، لا يمسّه الواقع كي لا يفقد سحره.فهل كانت لميعة تعشق شعر الشريف الرضي، أم كانت عاشقة لروحه كما تجلت في قصائده؟ ربما لم يكن هناك فاصل واضح بين الأمرين، فالقصيدة حين تبلغ درجة الصدق العاطفي تتحول إلى مرآة للشاعر، ومن يراها بصفائها سيرى في الشاعر صورة الحب الذي طالما بحث عنه. استمرارًا في استكشاف العلاقة بين لميعة عباس عمارة والشريف الرضي، نجد أن لميعة كانت تدرك أن الشعر لا يتوقف عند كونه مجرد وسيلة للتعبير عن مشاعر، بل هو لغة الروح التي تعبر عن تفاعل الإنسان مع الكون، والوجود، والمشاعر العميقة التي يختزنها. وعندما تساءلت لميعة عن السبب وراء إعجابها العميق بالشريف الرضي، قالت في إحدى شهاداتها: “الشريف الرضي كان يمثل لي نوعًا من العشق الذي لا يتجاوز حدود الأجساد، وكان شعره يعبر عن توقٍ روحي يعكس تلك العذوبة التي حلمت بها في كل مراحل حياتي.”هذه الشهادات تحمل في طياتها الاعتراف بأن لميعة، في تماهيها مع الشريف الرضي، كانت تبحث عن ذلك النموذج النادر في الشعر العربي الذي يمزج بين الطهارة العاطفية والصدق الوجداني. في شعره، كانت تجد ملاذًا يتناغم مع رؤيتها الخاصة للحب؛ حب يتخطى الملموس والمادي ليصل إلى ما هو أبعد من مجرد العاطفة الجسدية، ليصبح حالة من السمو الروحي، يشبه ذلك الحب النقي الذي يظل ثابتًا رغم العواصف.وفي قصيدته الشهيرة “أيها الغزالُ الذي في الجفنِ” نجد صورة غزالية عذبة تختصر كل ما يتعلق بعشق يتجاوز الحواس:
“أَيُّهَا الغَزَالُ الَّذِي فِي الجَفْنِ تَسْتَرِقُ
قَلْبِي تَحْتَ الظِّلِّ فِي النَّعْمَاءِ وَالْوَجْدِ”
هنا، يواصل الشريف الرضي استخدام الصورة الغزلية في إطار من العذوبة التي لا تهدأ، إذ يرمز الغزال إلى الجمال الذي يأخذ شكلًا متسامٍ في وجدان المحب، بينما يظل العشق مكتومًا، غير مسموع، بل يقتصر على همسات القلب. هذا النوع من الغزل هو الذي وقع في قلب لميعة، فشعرت أن كل كلمة فيه تعبر عن رؤيتها الخاصة للأحاسيس العميقة، عن ذلك الإحساس بالحب النقي والمُطهر الذي لا يجب أن يخرج عن حدود الوقار والعفة.أما في قصيدته “أَلا ليتَ شعري هل ترى بعدَ يومِنا” فيكشف عن حالة من الأسى المتسرب إلى القلب بعد فوات الأوان، وهو يتساءل عن مدى إمكانية إعادة اللحظات التي مضت، ليحمل بذلك شيئًا من الشكوى العاطفية، لكنه لا يغفل عن جمال المشاعر وألم الفقد الذي يحيا معه العاشق:
“أَلا لَيْتَ شِعْرِي هل ترى بعدَ يومِنا
تُدْنِي زُرَيْبَتُنا رُوَاحًا وَإِرَاحَا”
هذه الأسطر تحمل في طياتها تساؤلًا عميقًا عن الزمن، والحب الذي يتسلل عبر الوقت، دون أن يُعطى الفرصة للعيش في لحظة الحضور. وهذا هو السر الذي جعل لميعة تشعر بالتماهى مع الشاعر الشريف الرضي، إذ كان يعبر عن مشاعرها بطريقة بالكاد يمكن للآخرين أن يراها أو يسمعوها، بل تتلخص في تلك اللحظات العاطفية التي يُمكن أن نعيشها في عالم داخلي لا نحتاج فيه إلى العالم المادي ليُكملنا.تتجسد علاقة لميعة مع الشريف الرضي في تقاطع وجدانها مع شعره على نحو يفوق مجرد إعجاب أو محاكاة. كانت ترى فيه نموذجًا عاطفيًا كاملًا للحب النقي، الذي يحتفظ بشجاعته وح*ما*سته رغم تحولات الزمن. كان بمثابة رمز في شعره للعلاقة المتوترة بين الإنسان والحياة، وبين العشق والمعاناة. إذ ظلّ الحب في شعر الشريف الرضي مساحة مفتوحة للبحث عن العافية الروحية، بعيدة عن تجاذبات الماديات والرغبات المتقلبة.الشاعرة لميعة، التي اشتهرت بحسها العاطفي العميق، اعتبرت أن الشعر ليس مجرد كلمة، بل هو لحظة عابرة للأزمنة، تُسافر في وجدان كل محب يبحث عن الكمال في نفسه وفي الآخرين. وقد كان الشريف الرضي بالنسبة لها مرآة لتلك اللحظات التي تتخبط فيها المشاعر بين الاحتراق والسكينة، بين الرغبة في التلامس وبين الحفاظ على الطهارة. وفي هذه المساحة الشعرية الخاصة، كانت لميعة تجد مرادها: حبٌ لا يُغتال، وروحٌ لا تَشيب.هل عشقت لميعة عباس عمارة شعر الشريف الرضي أم عشقت الشاعر ذاته؟ هذا السؤال قد يظل دون إجابة نهائية، لكن العلاقة بين لميعة والشريف الرضي هي في النهاية علاقة شعرية وفكرية، تطورت من الاعجاب بالقصيدة إلى التماهي العاطفي مع الروح المبدعة وراء تلك القصائد. إن العلاقة بين لميعة عباس عمارة والشريف الرضي تتعدى حدود العلاقة بين الشاعر والمح*بو-بة أو بين القصيدة والقراءة، لتصبح درسًا في كيفية تفاعل الشعر مع الروح الإنسانية، وكيف أن القصائد يمكن أن تكون سكنًا للمشاعر الصادقة التي يتعذر التعبير عنها بالكلمات البسيطة. لميعة، التي كانت تعدّ الشعر سكنًا لروحها، وجدت في شعر الشريف الرضي المأوى المثالي لذلك السكون الداخلي الذي كانت تبحث عنه طوال حياتها، حيث لا شيء يضاهي جمال الشعر الذي يتولد في القلب ويعبّر عنه بقوة، ولكن بلغة شفافة، كالأصوات التي تخرج من الأعماق دون أن تُخترق بحواجز الفهم المعتاد.
في قصيدة أخرى للشريف الرضي، يعبر عن حالة الحزن المتأصل في الأعماق بسبب الحب الغائب، لكنه يعبر عنه بشعور من التقبل والهدوء، وليس بالبكاء أو الشكوى. يقول:
“مُرَاعِيةً شَوقِي لِقَلبِي المَكْتُومِ
وَحُبِّي يَغْرُبُ فِي فَجْوَاتِ اللَّيَالِي”
في هذه الأسطر، يعترف الشريف الرضي بحبّه الخفي، الذي لا يجد سبيلًا للظهور سوى في ذكريات الليل، حيث تختلط مشاعر الشوق مع الذكرى في لحظاتٍ من الحنين الذي لا يمكن التّعبير عنه إلا بالقصيدة. وفي هذه الحالة، نجد أن لميعة كانت ترى في هذه الكلمات تعبيرًا صادقًا عن مشاعرها هي الأخرى، حيث كانت تلك المشاعر تتجسد في كل مرة تقرأ فيها كلمات الشريف الرضي، لتصبح القصيدة أكثر من مجرد كلمات تُكتب على الورق، بل حالة عاطفية تكتمل في روح القارئ.من ناحية أخرى، إن العاطفة التي تحملها أشعار الشريف الرضي، وخاصة في أغانيه الغزلية، تتسم بالرهبة والجمال الذي يتراءى من خلال الغموض والرمزية التي اعتمد عليها في الكثير من قصائده. وفي هذا السياق، قالت لميعة عن القصائد التي تجمع بين الغزل العفيف والرؤية الروحية العميقة: “في كل مرة أقرأ له، أجد نفسي أبحر في عالم لا نهاية له، أستطيع أن أرى الحب كما لم أره في حياتي.”لا شك أن هذه الأقوال تحمل في طياتها نوعًا من السحر الذي شعرت به لميعة تجاه الشاعر الشريف الرضي، حيث كانت تجد في قصائده الخفية رغبة في المساواة بين العواطف الجياشة والعقل الهادئ، وبين اللهفة العاطفية والعفة الروحية التي تحكمها القيم العميقة. شعره كان يحمل طابعًا من النقاء، الذي ينسجم مع رؤيتها الخاصة للأشياء: ليس كل حب يتحقق على أرض الواقع، وليس كل شوق يطلب الملموس، بل يكفي أن يبقى في عالم الأفكار، حيث لا يمسّه فناء.أما قصيدته الشهيرة التي يتراءى فيها لامستها الفطرية في توازنه العاطفي ورغبته في السيطرة على مشاعر الحب، فهي كما جاء في قوله:
“كَمَا يَكُونُ غَرْبَتِي أَنَا غَرَائِبِي
إِذَا لَمْ تَرَاهُ مَسْتَقَرًّا بِفِي”
هنا، يبرز الرضي الشوق الذي لم يكتمل إلا في الخيال، حيث الغربة لا تعني البعد الجغرافي، بل تعني الغربة العاطفية التي يتصورها الشخص في نفسه حين لا يجد مَن يشاركه هذه الأحاسيس المتسارعة. وهو ما يعني أن هذه الغربة الداخلية لا تُداوى إلا بالقصيدة أو بالكلمات العذبة التي تذيب المسافات. ربما لميعة، في حبها للشريف الرضي، كانت تشعر بغربة من نوع آخر؛ غربةٍ داخلية عن العالم المادي، تبحث فيها عن عشقه الأبدي الذي يمكن أن يتولد من الكلمات فقط.ومع مرور الوقت، توضح أن لميعة لم تكن تُعجب فقط بشعر الشريف الرضي، بل كانت تعيش معه كل لحظة، وكأنها تستدعيه في شعرها. ففي أحد قصائدها، نجد أن لميعة استخدمت لغة قريبة من تلك التي عُرف بها الشريف الرضي، قائلة:
“أنت الذي على جفن الزهراء تشقّ
وأنا التي سكنت بين المدى والمحتوى”
تظهر هذه الكلمات تماهيًا عميقًا بين لميعة والشريف الرضي، حيث أصبحت كلمات الرضي جزءًا من لغتها الشعرية، واحتفظت بحضورٍ دائم في عوالمها. لم تكن لميعة مجرد قارئة لشعره، بل كانت تعيش هذا الشعر، وتنقل رسالته إلى عالمها الخاص، فتجد فيه صدًى عاطفيًا يوازي صدًى روحها.
وفي النهاية، إذا كان سؤال الدراسة هو:
“هل عشقت لميعة عباس عمارة شعر الشريف الرضي أم الشاعر ذاته؟” فإن الإجابة تكمن في أن لميعة كانت تعشق كل ما فيهما معًا؛ كان عشقها لشعره انعكاسًا لعشقها للشاعر ذاته، الذي استطاع أن يعبر عن أعمق مشاعرها ويحتفظ بها في كلمات خالدة عبر الزمن. كانت رؤيتها للحب في قصائده هي نفسها رؤيتها في حياتها الخاصة، حيث تبقى المشاعر الجميلة تلمس القلب بعيدًا عن ضجيج العالم، مُعلقة في فضاءٍ شعري لا يموت. وبالنظر إلى الاستمرار في تحليل العلاقة بين لميعة عباس عمارة والشريف الرضي، نجد أن الشاعرة لم تكن فقط تأخذ من قصائده ملاذًا شعريًا، بل كانت تتأثر بها بعمق روحي وفكري، مما جعل تفاعلها مع شعره يتجاوز مرحلة الإعجاب السطحي إلى حالة من التماهي الحقيقي مع أفكارها ومشاعرها. فقد كانت لميعة ترى في شعر الشريف الرضي رمزًا للهوية الشعرية العربية الأصيلة، التي لا تقتصر على الألفاظ والزخارف، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إلى المعنى العميق، والمحتوى الروحي الذي يصيب القلب بلذة شعرية عميقة.
يمكننا القول إن لميعة، عندما كانت تقرأ لشريفها الرضي، كانت تقرأ في نفس الوقت ما لا تجرؤ على قوله، كانت تجد فيه تعبيرًا نادرًا لما لا يمكن أن يُقال بالكلمات اليومية. فهي، مثلما أظهرت في العديد من قصائدها، كانت تشتاق إلى هذا النوع من العاطفة المثالية التي يصعب العثور عليها في الواقع. كان شعر الرضي يتحدث عنها بلغة لم تستطع أن تجدها في شعراء آخرين. كانت قصائده بالنسبة لها دروسًا في الصمت والتعبير، في العفة والجمال، في الوجود والغياب.
عندما نقرأ في إحدى قصائد الشريف الرضي، التي تقول:
“أنت الذي تقدّم عند الرّوحِ نذورها
وتهبُ الحياةَ لِمنْ يَسْتَغْنِي عن المدى”
نجد أن هذه الكلمات تلخص بشكل رائع فلسفة لميعة تجاه العاطفة والحب. ففي نظرها، العشق ليس عبئًا أو شهوةً عابرة، بل هو نوع من العطاء الذي يخلق الحياة ويمنحها معنى، ويجعل الروح تُشرق من جديد. كان هذا هو التصور الذي تأثرت به لميعة في رؤية شعر الشريف الرضي، حيث كانت ترى فيه الطريق المثالي الذي يدمج بين القلب والعقل، بين العاطفة والإيمان. ما قد يعزز هذا الرباط العاطفي بين الشاعرة وشفافية شعر الرضي، هو قدرة شعره على التحليق فوق العوائق المادية، بل الوصول إلى أعماق لا يمكن لمسها إلا بقلب شاعر. فقد تجلى في شعره تلك الرؤية التي ترى في الحب روحًا تتنقل بين الأزمان ولا تتوقف عند حدود الجسد. لميعة، التي لم تكن تقتصر على الكتابة الشعرية التقليدية، بل كانت تمتلك بُعدًا داخليًا يعكس تحديها للواقع، كانت تجد في شعر الشريف الرضي القوة التي تجعل الكلمات تتناثر حول قلبها كأنها تمثل حقيقتها المخفية.وفي قصيدته الشهيرة “يا عاذلي في الحبّ لست ألومُ”، يتجلى بشكل واضح التأثير العاطفي الذي أحدثه الشعر الرضي في لميعة، حيث يمكننا أن نرى ذلك الصوت العميق الذي يشعر بالعاطفة بشكل منفصل عن الذات، كما في هذه الأبيات:
“يا عاذِلِي في الحُبِّ لَسْتُ أَلُومُ
فَقَلبِي يَجْنَحُ عَنْ وُجْهِ الشُّهُودِ”
هنا، يؤكد الشريف الرضي على فكرة أن العشق ليس شيئًا يمكن للعقل أن يقرر فيه، بل هو حالة من الانجراف الذي لا يحق للآخرين محاكمته أو توجيه اللوم عليه. وعليه، فإن لميعة كانت ترى في هذا النوع من التعبير العاطفي ترجمة حقيقية لما يمرّ بها في حياتها الخاصة، حيث كانت تعيش في قلبٍ مليءٍ بالتساؤلات حول ماهية الحب، وكيف يُمكن للمرء أن يكون عاشقًا دون أن يفقد ذاته في ذات الوقت.على الرغم من الفروقات الزمنية بين لميعة والشريف الرضي، فإن التفاعل العاطفي بينهما يتجاوز الحواجز الثقافية والزمانية. لميعة عباس عمارة كانت تؤمن بأن الشعر هو الحاجز الذي يفصل بين الوجود العاطفي المجرد والواقع الاجتماعي المعقد. وبالتالي، كان الشريف الرضي بالنسبة لها ليس مجرد شاعر من العصور القديمة، بل كان رمزًا حقيقيًا للإنسانية الشاعرة التي تسعى إلى الحب الروحي والتعبير العاطفي النقي.ولعلنا نجد في النهاية أن لميعة لم تعشق فقط شاعرًا أرسى قواعد الغزل العفيف، بل عشقته من خلال ما قدّمه من رؤية جديدة للحب، رؤية تعكس حالة من التوق الروحي والوجداني. في شعره، كان الرضي يقدم لها الإجابة على كثير من الأسئلة العاطفية التي كانت تشغل ذهنها طوال حياتها. فقد كان الشعر في نظر لميعة، مثلما كان في نظر الشريف الرضي، ليس مجرد فعل لفظي أو جمالي، بل كان تعبيرًا عن تلك المعركة الداخلية بين الروح والجسد، بين الحلم والواقع، وبين الحب النقي الذي لا يتلوث.و، يمكن القول إن لميعة عباس عمارة كانت تعشق الشعر بقدر ما كانت تعشق الشاعر، حيث كانت تجد في قصائد الشريف الرضي أكثر من مجرد كلمات، بل كانت تجد فيها حياةً روحانية تلامس أعماقها، وتنثر أمامها أزهارًا من عاطفة لا تموت، وتحملها على أجنحة الأدب إلى عوالم لا يمكن أن يصل إليها إلا من أتى من رحم الشعر والروح.!!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.