كواليس خفايا قائمة (السفراء) الجدد لوزارة الخارجية العراقية
* في هذا المقام وفي سياق المقال سوف نلقى الضوء حول جانب من خفايا الصراع البرلماني حول تصديق قائمة (السفراء) الجدد واعتمادهم معيار الانتماء والولاء الحزبي والشهادات الجامعية المزورة على حساب الكفاءة والاكاديمية الدبلوماسية والنزاهة؟وعودة لجدلية “لاعب القمار المحترف وزيرأ للخارجية العراقية”؟
*طالبنا ومن خلال مقالات سابقة أن تكون لدى السفراء المرشحين سيرة ذاتية مفصلة تبين الشهادات الجامعية التي حصلوا عليها بالتفصيل سواء أكانت ” بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراه” مع الخبرة الدبلوماسية التي يمتلكونها ولكن جميع محاولاتنا لم تجد أي آذان صاغية لدى وزارة الخارجية أو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب وتم اهمالها , حتى أن احد السادة النواب ارسل لنا جواب سخرية وتندر حول مطالبنا عبارة عن رسالة :” تعزية ومواساة حول وفاة واغتيال مطالبنا بالكشف ونشر السيرة الذاتية الحقيقية للسفراء المرشحين “.
ينصّ قانون وزارة الخارجية رقم 45 لعام 2008 والذي نشر في جريدة الوقائع العراقية الرسمية بالعدد 4097 في 17/11/2008 والخاص باختيار السفراء، بأن يكون اختيارهم بنسبة 75 بالمئة للمدرّجين في العمل الدبلوماسي من داخل الوزارة، ويشمل ذلك كوادرها المتدرّجين في الترقيات الدبلوماسية التي تبدأ من ملحق وتنتهي بالوزير المفوّض. يُقابل هذه النسبة, نسبة أخرى وهي 25 بالمئة مخصّصة للأحزاب السياسية، وترشح الأخيرة بدورها شخصيات تابعة لها وفقا لمعايير معينة تتعلق بالشهادة والأكاديمية والكفاءة والنزاهة وغيرها من الشروط الأخرى الواجب توفرها في الشخص المرشح.
منذ سقوط النظام السابق عام 2003، تحولت الدبلوماسية العراقية من منصة تمثل كرامة الأمة وسيادتها إلى مسرح للعبث السياسي والمحاصصة الحزبية. في بلد يعاني من ويلات الفساد والطائفية ونظام حكم المحاصصة ، بات تعيين السفراء مرآة عكست أسوأ ما في النظام السياسي العراقي: شهادات جامعية مزورة، ولاءات حزبية تطغى على الكفاءة، وغياب تام للمعايير المهنية والدبلوماسية . هذه ليست مجرد أزمة إدارية عابرة في دائرة حكومية يمكن حلها بسهولة ودون تعقيد ، بل فضيحة وطنية أضرت بسمعة العراق في المحافل الدولية، وجعلت من سفارته مجرد واجهات لتوزيع المغانم الحزبية بدلاً من تمثيل مصالح الشعب.
قبل حوالي اسبوع ، طفت على السطح فضيحة جديدة ، حيث سُرّبت “عمدًا” قائمة أولية تضم (38) اسمًا مرشحًا لمناصب السفراء، تنتظر مناقشتها في البرلمان للمصادقة النهائية. هذه القائمة التي تداولتها وسائل الإعلام المحلية ومنصات التواصل الاجتماعي ، ليست مجرد وثيقة إدارية، بل وثيقة إدانة لنظام المحاصصة الذي يواصل تدمير سمعة العراق الدبلوماسية. جميع الأسماء المرشحة تنتمي إلى أحزاب السلطة الحاكمة، دون وجود ولو اسم واحد مستقل يمثل الكفاءة أو النزاهة . والأدهى، أن من بين هؤلاء المرشحين يحملون شهادات جامعية مزورة – سواء بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراه – في فضيحة دبلوماسية قادمة تنذر بمزيد من الإحراج الدولي لبغداد .
وهذه القائمة المسربة ليست حدثًا عابرًا، بل تعكس مرضًا مزمنًا ينخر جسد الدبلوماسية , أحزاب السلطة، في جشعها المستمر، حوّلت السفارات إلى غنائم سياسية تُوزّع على الموالين، بغض النظر عن كفاءتهم أو نزاهتهم. أما القوانين التي تصدر لغرض تنظيم العمل الدبلوماسي وأسلوب اختيار السفراء أصبح مجرد ديكور قانوني تتجاهله أحزاب السلطة متعمدة. بدلاً من اختيار دبلوماسيين محترفين، يتم فرض مرشحين لا يملكون أدنى مؤهلات التمثيل الدبلوماسي. ولطالما كانت الدبلوماسية مرآة تعكس مدى قوة الدولة وكفاءة نخبها، لكن في العراق، تحولت إلى أداة لتكريس المحاصصة . قانون الخدمة الخارجية يؤكد ويوضح في فقراته التي لا لبس فيه ويشترط ان يكون التعيين وفق معايير صارمة ومن اهمها : الشهادة الأكاديمية والخبرة والكفاءة والنزاهة. لكن هذا القانون لم يكن سوى مجرد حبر على ورق .
منذ حوالي ما يقارب العقدين من الزمن وبتاريخ 10 ت1 2006 (1) نشرنا تحقيق صحفي استقصائي بعنوان ” لاعب القمار المحترف وزيرآ للخارجية العراقية” هذا التحقيق بدوره كان لنا بمثابة نقطة تحول وانطلاق أخر في عالم الصحافة والإعلام لما أحدثه من ضجة ليس فقط من خلال تداوله وإعادة نشره من خلال المواقع العراقية والعربية وإنما ترجم الى اللغة الانكليزية والفرنسية ونشر في منتدياتها الاجتماعية وكان له صدى في أروقة المنطقة الخضراء وكافة مكاتب وزارة الخارجية , حيث انهالت علينا بعد ساعات من النشر من محققين من “هيئة النزاهة الاتحادية” وموظفين وسفراء ودبلوماسيين من “وزارة الخارجية” ترغب في طرح ما عندها من معلومات موثقة ووثائق لغرض نشرها عن طريقنا وكنا قد تطرقنا بصورة مفصلة وكتبنا سلسلة مطولة بعدها من التحقيقات الصحفية الاستقصائية اغلبها كان مدعم بالوثائق والمستندات الرسمية عن مدى الفساد المالي والاداري والانتماءات الحزبية والشهادات الجامعية المزورة التي نخرت جسد وزارة الخارجية العراقية , وكشفنا أن غالبية السفراء المعينين منذ 2003 جاءوا بناءً على انتماءاتهم الحزبية والعائلية، وليس بناءً على كفاءتهم وخبرتهم الدبلوماسية. وبعضهم كان مصاب بامراض نفسية وعقلية مزمنة ويتناول ادوية للعلاج , بل ان احدى السفراء الأكراد في “كندا ” وصلت فاتورة استهلاكه للمشروبات الكح-و*لية الشهرية إلى ” 12 ” ألف دولار شهريآ تصرف من نثرية السفارة وتم نشرها بالوثائق والمستندات الرسمية وبل إن نسبة مذهلة – تصل إلى 90% – من السفراء في فترات معينة كانوا يحملون جنسيات مزدوجة ، بعضها للدول التي يمثلون العراق فيها، ومما أثار في حينها تساؤلات ولغط حول مدى ولائهم الحقيقي يكون لعراق ام للدول التي يحملون جنسياتها.
المشكلة الأعمق الاخرى والتي تكاد تكون غير منظورة للرأي العام تكمن في هيمنة الولاء الحزبي والعائلي على عملية التعيين السفراء وافراد عوائلهم وزوجاتهم وابنائهم واقاربهم في نفس السفارة ووصل الأمر إلى تعيين عوائل النواب والوزراء وأقاربهم كرد الجميل لهم من قبل السفير الذي تعين وسط دعم هؤلاء له ونجاحه بالمقابلة الشكلية الصورية من قبل لجنة العلاقات الخارجية البرلمانية ، ومختارين بدورهم بناءً على مدى انتماءاتهم الحزبية وليس كفاءاتهم الاكاديمية. هذا النظام، الذي يعتمد على تقاسم المناصب بين الكتل السياسية، حوّل السفارات إلى أشبه “بالمزارع الحزبية” وبعيدة كل البعد عن مصلحة العراق. حتى عندما يتم إجراء مقابلات للمرشحين، فإنها تتحول إلى مسرحية شكلية، حيث يتم فرض مرشحي الأحزاب على وزارة الخارجية، تاركين الكوادر المهنية المؤهلة على الهامش.
الأمر لا يتوقف عند المحاصصة الحزبية والطائفية ، بل يتجاوزها إلى فضيحة أخرى وهي ما تزال تعاني منها وزارة الخارجية بعد مرور كل هذه السنين دون ان تستطيع ان تجد لها اي حل , وهي الأمراض النفسية والعقلية الملازمة لبعض السفراء قبل تعيينهم وفق شهادات طبية صادرة من دائرة الرعاية والضمان الاجتماعي في بلدان اللجوء التي كانوا فيها قبل الغزو والاحتلال 2003 بالاضافة الى فضيحة الشهادات الجامعية المزورة التي حصل عليها السفراء لغرض الموافقة على تعينهم ، بل إن آخرين لا يتقنون حتى اللغة الإنجليزية، وهي أساسية للعمل الدبلوماسي. هؤلاء، الذين يُفترض أنهم يمثلون العراق في المحافل الدولية، يفتقرون إلى أدنى معايير البروتوكول الدبلوماسي. وهذه ليست حالات فردية شاذة لا يمكن الاخذ بها ، بل هي نمط متجذر ومتكرر يكشف عن انهيار معايير مهنية وكفاءة الاختيار , والنتيجة؟ سمعة العراق الدبلوماسية تتآكل يومًا بعد يوم في المحافل الدولية . وزراء عراقيون في زياراتهم الخارجية اشتكوا علنًا وصراحة من أداء السفراء الضعيف والعشوائية والتخبط في ادارة ابسط انواع البروتوكول الدبلوماسي ، مشيرين بدورهم إلى أن المحاصصة هي السبب الرئيسي وراء هذا الفشل الدبلوماسي الذريع وتتكشف أبعاد كارثة دبلوماسية تهدد مكانة العراق الدولية. هذه الفضائح ليست مجرد أخطاء إدارية، بل إهانة لكرامة شعب يستحق تمثيلًا يعكس تاريخه وحضارته العريقة.
هذه السياسات لم تؤثر فقط على الأداء الدبلوماسي، بل ألحقت ضررًا بالغًا بسمعة العراق. في عالم يعتمد على الدبلوماسية الناعمة لتعزيز العلاقات وبناء الثقة بين الدول الغربية المؤثرة ، يجد العراق نفسه محاصرًا بصورة سلبية نتيجة تصرفات سفرائه غير المؤهلين. من إهمال مصالح المواطنين العراقيين في الخارج إلى عدم القدرة على تمثيل العراق في القضايا الدولية الحساسة، باتت الدبلوماسية العراقية موضع سخرية وانتقاد. بل إن بعض السفراء وصل بهم الامر أنهم أظهروا ولاءً لدول أجنبية أكثر من ولائهم للعراق،مما يثير تساؤلات خطيرة حول مدى جدية نزاهتهم.
إن استمرار هذا النهج يمثل خيانة لتطلعات الشعب العراقي. لا يمكن للعراق أن يستعيد مكانته الدولية دون إصلاح جذري في نظام تعيين السفراء. يجب أن تكون الكفاءة والخبرة الدبلوماسية المعيار الوحيد، بعيدًا عن الولاءات الحزبية والشهادات المزورة. لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان ملزمة بصورة ليست طوعية فقط وإنما ادبارية ومن خلال وظيفتها بإعادة تقييم أداء جميع السفراء وبصورة على الاقل سنوية وتغييرهم بناءً على معايير تستند الى المهنية الوظيفية الصارمة. كما يجب فتح تحقيقات شفافة ونزيهة في الشهادات الأكاديمية للسفراء الحاليين، مع محاسبة كل من ثبت تزويره لشهادته أو تقصيره في أداء واجبه.
المحاصصة الطائفية والحزبية سحقت واغتالت معها الكفاءات الدبلوماسية في أروقة وزارة الخارجية، بعضها دفنت تحت وطأة وصمة النظام البعثي السابق والأخرى أصبحت مخنوقةً بأيدي الولاءات الحزبية العمياء. منصب السفير أو القنصل او أي درجة دبلوماسية لم يعد يكافئ به إلا من يتقن الخضوع ولغة التملق الحزبي، بينما لغة البروتوكول الدبلوماسي تُركت للغبار. أحزاب السلطة، في جشعها المقيت، تقاسمت السفارات في الدول الغربية المؤثرة كغنائم حرب، فألحقت ضررًا فادحًا بسمعة العراق في المحافل الدولية. كان بإمكان العراق استثمار عمقه الحضاري وموقعه الجيوسياسي، لكنه ظلّ، على مدى عقدين وحتى اليوم، أسيرًا لتعيينات مشوهة، تفرضها الأحزاب بلا خجل، مُصرّة على تدنيس وتحطيم صورة العراق الدبلوماسية، تاركةً الأمل في قائمة سفراء كفوئين ومهنيين حلمًا بعيد المنال.
العراق، بتاريخه العريق وحضارته الضاربة في القدم، لا يستحق أن يُمثل بسفراء يفتقرون إلى الكفاءة والنزاهة . وإن استمرار تعيين سفراء بناءً على الولاء الحزبي والشهادات الجامعية المزورة ليس مجرد إخفاق إداري، بل ج#ريم*ة بحق الوطن. حان الوقت لكي تستعيد الدبلوماسية العراقية هيبتها، وأن تكون صوتًا لشعب يتطلع إلى مستقبل يليق بتضحياته. فهل ستتحرك الحكومة والبرلمان لوقف هذه المهزلة، أم ستبقى السفارات العراقية رهينة المحاصصة والفساد؟ الإجابة تقع على عاتق من يدعون تمثيل الشعب، والتاريخ لن يرحم من يتخاذل , والحكومة الحالية ما تزال تتخبط في مستنقع التردد، عاجزة عن تحطيم جدار المحاصصة الدبلوماسية رغم مسرحيات تشكيل اللجان المشتركة، آخرها في آذار 2025 ومع هذه اللجان الشكلية كان لغياب الإرادة السياسية الحقيقية مما أعاد المسار إلى نقطة الصفر، تاركًا العراق عرضة للسخرية الدولية. وبينما العالم ينظر إلى بغداد بانتظار من سيمثلها، يبقى السؤال المُرّ: هل سيكون دبلوماسيًا محترفًا يحمل كفاءة وكرامة، أم مجرد أداة حزبية تحمل حقيبة مزورة وتوصية من كتلته الحزبية لتعيين الاهل والاقارب للنواب والوزراء؟
(1) https://www.masress.com/alshaab/1786 عثرنا في الارشيف لاحد المواقع العربية على المقال