كربلاء: قراءة في الاحتجاج الأخلاقي – أحمد شهاب
في التاريخ الإسلامي، لا تمثل كربلاء مجرد حدث دموي يعتصر القلب ألمًا، أو مأساة تعيشها طائفة دون أخرى، وإنما هي مرآة للتوتر بين الشرعية الدينية والسلطة السياسية، ولحظة مفصلية تكشف هشاشة النموذج السياسي حين يُجرد من القيم.
فالإمام الحسين لم يخرج طامعًا بالسلطة، بل رافضًا لظلمها، ولم يكن مشروعه انقلابيا بالمعنى الذي يُدرس في العلوم السياسية، بل أخلاقيًا في جوهره ومضمونه، وحين طُلبت منه البيعة، لم يرفضها بوصفها إجراءً إداريًا خاطئا، وإنما رفض أن يمنح الشرعية لسلطة لا تستند إلى العدل.
والأهم ما كان يراه في ملامح السلطة فهي لم تعد ظلًا للنبوة، بل آلة قسرية تفرض الطاعة بالعن*ف، وهكذا لم يكن الامام الحسين يناهض شخص، وانما يفضح تصوّر هش للشرعية، وكأنه يقول ببساطة شديدة: إذا سُلب العدل، فلا شرعية للحكم.
ولو عدنا إلى عشرات الرسائل التي بعثها أهل الكوفة اليه، نلاحظ أنها لم تتضمن دعوات للثأر بقدر ما كانت نداءات من مجتمع يبحث عن بوصلة رمزية وسط فراغ القيم، وهي تعكس انتظار الناس لنموذج أخلاقي في السلطة، لا مجرد بديل سياسي، لكن المفارقة انه حين جاءهم، خافوا وتراجعوا.
الخذلان هنا ليس مجرد ضعف بشري، ولكنها اللحظة التي يتراجع فيها الصوت الجمعي عن الموقف الأخلاقي، وتُترك المبادئ وحيدة في مواجهة السيوف. في مواجهة ذلك أدرك الحسين حقيقة المأزق، فقال في واحدة من أبرز كلماته: “ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة”.
في المنظور العسكري قد يُقال إن ثورته فشلت في تحقيق النصر الميداني، لكن بالنظر الى اهدافها يتضح ان ما بقي ليس الهزيمة، بل البوصلة التي تحولت الى منهج، لقد وضع الحسين معيارًا جديدًا: أن تُقاس الشرعية بما تحققه من عدل، لا بما تفرضه من أمر واقع.
ومن بين كل ما كُتب عن كربلاء، يبقى موقف السيدة زينب لحظة نادرة في إعادة تعريف الانتصار، حين قالت “ما رأيت – في كربلاء- إلا جميلًا”، لم تكن تغفل عن الدماء السائلة، بل كانت ترفض مقاييس الانكسار التقليدية، وتُذكّرنا أن البطولة ليست دائمًا في الغلبة.
ولا تنحصر دلالات كربلاء في إطارها الزمني، بل تمتد لتشكل نموذجاً إنسانياً متكرراً عبر التاريخ. فهي تعيد إنتاج المشهد ذاته الذي شهده النبي عيسى (عليه السلام) حين خذله أتباعه وقت اشتداد المحنة، ليأتي بعد قرون المستشرق ماسينيون فيكتشف في تراجيديا الحسين نفس ذلك الأثر الأخلاقي الكوني الذي يتجاوز حدود الدين والثقافة، مؤكداً أن مأساة كربلاء ليست سوى فصل جديد من فصول الصراع.
اعود قلبلا الى رواية تستحق التأمل، وتحمل كثافة في المشهد الذي نتحدث عنه. فعندما وقف الحسين أمام جيش عمر ابن سعد خاطبهم قائلاً: “إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم”، لم يكن خطابه موجهًا للمقاتلين كأعداء، بل كبشر خسروا بوصلتهم الأخلاقية، وهي محاولة أخيرة لتنبيه الضمير قبل أن يُحسم كل شيء بالسيف.
وهنا تُلامس كربلاء جوهر السؤال الأخلاقي الذي لا يشيخ، هل تُمنح الطاعة لمن نزع رداء العدل؟، فلم يكن الحسين يطلب نصرًا بالمعنى العسكري، بل كان يختبر يقظة الضمير في وجه القهر، وكما في كل عصر، حين يتردّد الناس بين الكرامة والسلامة، يعود السؤال من جديد: من الذي يستحق أن يُتبع؟.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.