آراء متنوعة

قصيدة النثر والأدب المقارن تداخل جمالي وامتداد

بقلم: علاء الأديب

تُعدّ قصيدة النثر أحد أبرز التحوّلات التي طرأت على بنية الشعر العربي في العصر الحديث، إذ مثّلت انزياحًا واضحًا عن القوالب العروضية التقليدية، وانفتاحًا على أنماط تعبيرية جديدة. وقد جاءت هذه القصيدة بوصفها استجابة لتحوّلات فكرية وجمالية عميقة، متأثرةً بجملة من العوامل، من أبرزها الاطلاع الواسع على التجارب الشعرية العالمية عبر الترجمة والنقد الأدبي المقارن.

في هذا السياق، تتبدّى أهمية الأدب المقارن لا بوصفه خلفية معرفية فحسب، بل بوصفه أداة فعّالة في تشكيل وعي الشاعر الحديث، وفي إعادة تشكيل القصيدة ذاتها.

أولًا: الخصائص الجمالية لقصيدة النثر
…………………………………………..
1. التحرّر من البنية الإيقاعية التقليدية
قصيدة النثر لا تتقيد بالأوزان العروضية ولا بالقافية، بل تؤسس إيقاعها الخاص عبر التكرار، والتنغيم الداخلي، وتوازن الجمل، مما يمنحها حرية تعبيرية واسعة دون أن تفقد شعريتها.

2. التكثيف الدلالي والانزياح البلاغي
……………………………………………
تنزع هذه القصيدة إلى اللغة المكثفة، المشحونة بالدلالة، حيث تتحول المفردات إلى حوامل رمزية تتجاوز معناها المعجمي إلى أفق إيحائي أرحب، مما يمنح النص بعدًا تأمليًا وجماليًا في آن.

3. الانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى
………………………………………………
تتداخل في بنية قصيدة النثر عناصر السرد، والمونولوج، والحوار، والمقالة الفكرية، وحتى الشذرة الفلسفية، ما يجعلها نصًا  يتجاوز الانغلاق النوعي إلى رحابة التجريب.

4. الحميمية والذاتية
………………………..
تُعلي قصيدة النثر من شأن التجربة الفردية، وتجعل الذات مصدرًا للمعنى، فتغدو القصيدة تعبيرًا عن لحظة وجدانية أو تجربة فكرية أو حالة شعورية، تُقدَّم بأسلوب تأملي يقترب من الاعتراف الداخلي.

5. الاقتصاد اللغوي والجمالية المجانية
……………………………………………
تجنح هذه القصيدة إلى الاكتفاء بجمل قصيرة وعبارات مركزة، خالية من التزويق البلاغي الزائد، مما يجعلها أقرب إلى جوهر الشعر، بوصفه صفاءً لغويًا لا يخضع للغرض أو النفعية، بل يتأسس على الجمالية الخالصة.

ثانيًا: الأثر الإيجابي للأدب المقارن في بناء قصيدة النثر
……………………………………………………………..
يمثّل الأدب المقارن إحدى أهم الروافد الفكرية التي أسهمت في تطور قصيدة النثر، سواء على مستوى البنية أو الرؤية. وتتجلى إسهاماته الإيجابية في النقاط التالية:

1. توسيع الأفق الثقافي والجمالي
……………………………………….
من خلال الاطلاع على تجارب الشعراء العالميين (بودلير، رامبو، إليوت، سان جون بيرس، طاغور… إلخ)، تتغذى قصيدة النثر بروح إنسانية متعددة، وتكتسب أدوات تعبيرية مغايرة، تستفيد منها دون أن تذوب فيها.

2. تعميق الطابع الحواري للنص
……………………………………..
يتيح الأدب المقارن للشاعر أن يُدخل نصّه في حوار مع نصوص أجنبية، سواء عبر التناص، أو المعارضة، أو المحاكاة، مما يمنح القصيدة عمقًا ثقافيًا، ويجعلها صوتًا فرديًا في جوقة إنسانية كونية.

3. الإفادة من الأشكال الشعرية غير العربية
………………………………………………….
انفتحت قصيدة النثر على أشكال تعبيرية مغايرة لما عرفه الشعر العربي التقليدي، كقصيدة الهايكو اليابانية، والقصيدة الحرة الإنجليزية، والسوناتا الإيطالية، وغيرها. وقد أتاح الأدب المقارن إدماج هذه الأشكال بوصفها محفزات جمالية، لا قوالب جامدة.

4. تجاوز المحلّي إلى الإنساني
……………………………………
من خلال هذا البُعد المقارَن، تتحرر القصيدة من الانغلاق المحلي، وتغدو أقدر على التعبير عن القضايا الوجودية والكونية، لتصبح شعرًا عابرًا للحدود، يتحدث بلغة الإنسان، لا بلغة القومية أو الجغرافيا.

خلاصة القول
…………………
إن قصيدة النثر، بما تنطوي عليه من مرونة أسلوبية، وثراء دلالي، وحسّ تأملي، تمثل اليوم فضاءً مفتوحًا لتلاقح الثقافات وتداخل التجارب. وإذا كان الأدب المقارن لا يُعدّ من مميزاتها الجوهرية، فإنه يمثل أحد أهم عوامل تطورها وتجديدها، بوصفه أداة للانفتاح على الآخر، ولإعادة النظر في الذات من خلال مرايا متعددة.
إنه الحضور الخفي في القصيدة، الذي لا يُعلن نفسه بوضوح، لكنه يُغنيها من الداخل، ويمنحها بعدها الكوني الذي يليق بالشعر في زمن العولمة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!