مقالات

قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح –

ليست الإسكافي رواية عن حرفةٍ منقرضة، بل عن كينونةٍ مستمرّة في التواري خلف مهنة. إنها قصة الرجل الذي يرمّم آثار الآخرين ويترك جراحه مكشوفة، يحشو النعال بالمسامير، ويترك قلبه يتآكل بصمت.

في هذه الرواية، الصادرة عن الكاتبة جيني حسين علي عن دار مقام عام 2024، لا نجد حبكةً تقليدية تُساق نحو ذروة، بل نجد مسارًا دائريًا كالحياة ذاتها، يتكرر فيه الصباح والعتمة، ويتبدّل الزبائن ولا يتغير الرجل.

الرجل، الذي لا يملك من العالم سوى رائحة الجلد، وخيوطًا قديمة، ومطرقة تعيد إيقاع الزمن كل يوم.
“كنت أسمع صرير الحياة في كل مسمار أدقّه في النعل… وأحيانًا كنت أشعر أني أخيط صدري لا الحذاء.”
ليست هذه جملة رمزية فحسب، بل بيان وجودي: الإنسان الذي تحوّل إلى أداة، وأداة إصلاحه الوحيدة هي مواصلة الفعل ذاته الذي أنهكه.

الرواية تفتح بابًا على عالم سفلي، ليس لأنه مظلم، بل لأنه يقع تحت القدم، في مستوى النعال والأرض والعرق. الرجل الذي يطأ الناس على بابه، ثم يمرّون دون أن يروه، صار هو نفسه مرآة لهم. حذاء بعد آخر، أثر بعد آخر، كأن دكّانه ليس ورشة بل أرشيف لأقدام الحياة.

“كل حذاء مرّ عليّ، فيه قصة… بعضهم كان يسألني إن كان يمكن ترقيع الروح أيضًا، فأضحك وأقول: أنا لا أصلح الأرواح، فقط أخيط آثارها.”

بهذه العبارة، تضع الكاتبة القارئ أمام أسئلة وجودية: هل نحن نعيش لنُصلح، أم لننحني في صمت؟ هل نستطيع ترقيع ذواتنا، أم أننا نكتفي بتلميع ما يخصّ الآخرين؟
الرجل لا يعاني من الفقر وحده، بل من غياب الحاجة إلى اسمه. إنه الحاضر الغائب، الذي لا يُنتبه لوجوده إلا عندما يتعطّل سير الأحذية. وعندما ينتهي عمله، يُعاد إلى الظلّ، حيث لا أحد يصفّق للصامت.

الرواية تنقل نبض الشارع، رائحة الحيّ الشعبي، صوت السوق، لكنها لا تفعل ذلك كديكور بل كوشم على وجه البطل. لا أحد في الرواية يملك صوتًا واضحًا غيره، رغم أنه بالكاد يتكلم. لكن صمته يدوّي، وتكراره يحمل احتجاجًا دفينًا ضد العالم الذي لا يسمع إلا من يصرخ.

في أحد أكثر المقاطع كثافةً يقول:
“الأيام عندي كلها يوم واحد طويل… يتغير لون الضوء، لكن الوجع لا يتغير.”
هنا تصل الرواية إلى ذروتها الفلسفية: الزمن ليس تتابعًا، بل هو صدى داخلي للملل، للمقاومة الباردة، للبقاء بلا معنى سوى التكرار. ليس في النص ما يدل على الحلم، أو حتى على الأمل. لكنه ليس نصًا عدميًا. بل هو نصّ يقف على تخوم اليأس دون أن يسقط فيه، لأن البطل، رغم كل شيء، يُكمل.

لا يطلب تعاطفًا، لا يروي مأساته، بل يعيشها كنظام داخلي.
الرواية تُصوّر الكرامة لا كقيمة أخلاقية، بل كأداة بقاء. ليست كرامة البطل في رفضه للذل، بل في رفضه للتخلّي عن دوره. عن خيطه. عن رقعته.

وفي لحظة ختام الرواية، حين يقول:
“لو سقطت الدنيا كلها، سأبقى أخيط آخر حذاء… وربما يكون حذائي أنا.”
لا يُعلن عن مقاومة بطولية، بل عن نوع خاص من القبول المُضيء. ليس استسلامًا، بل اعترافًا بقدر الإنسان المحدود في عالمٍ لا يعترف بالضعف إلا إذا صاح.

إن الإسكافي ليست رواية عن شخص، بل عن طبقة كاملة من الناس الذين يحملون هذا العالم على أكتافهم دون أن تُذكر أسماؤهم في نشرة الأخبار. الكاتبة لم تكتب عملًا عن الحذاء، بل عن من يدقّه، من يُنزل رأسه كل يوم، ليس تواضعًا، بل لأن الحياة لا تترك له رفاهية الوقوف منتصبًا.

في زمنٍ يتبارى الجميع فيه بالصوت العالي، كتبت جيني حسين علي رواية الصمت. رواية عن النبل غير المسموع. عن بطولة تهمس. عن رجل، حين يُسأل عن اسمه، يكتفي بأن يقول:
أنا الإسكافي. لا أكثر، ولا أقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!