ممرات هشة ، عاطف ابو سيف – مهند طلال الاخرس
ممرات هشة رواية لعاطف ابو سيف وهي تقع على متن 230 صفحة من القطع المتوسط، وهي من اصدارات دار الاهلية للنشر والتوزيع في عمان الاردن وصدرت بطبعتها الاولى سنة 2024.
تبدا احداث الرواية بمشهد يعتلي خشبة المسرح على باب دكان في حارة من حارات غ*ز*ة، يموت زهدي فجأة ويجتمع الجيران محاولين انقاذه، ثم يكملون اجتماعهم بهدف التباحث عمن يحمل مهمة اخبار زوجة المتوفي [هدى] بذلك النبأ. فيقع الخيار على جارها الصياد الشاب الاربعيني، وهو الجار الملاصق لهدى والذي تلتقي شرفة بيته مع شرفة هدى وزوجها المتوفي…
تدور احداث الرواية على الشرفة المتقابلة بين المنزلين متجاورين لعائلتين تعيشان في غ*ز*ة، ومن هذه اللحظة تصبح الشرفة خشبة المسرح الرئيسي الذي تدور عليه الاحداث، ومالا يدور عليه، يستدعى او يستذكر ليكون حاضرا…وبالمحصلة فإن الذاكرة وفعلها واسئلتها وتفاصيلها الدقيقة الناجمة عن الفقد والموت تملأ مسرح الشرفة بتلك الاحداث والذكريات والاسئلة والتساؤلات التي تصنع احداث الرواية وتخط خطوطها وتملأ صفحاتها..
الشخصية الاولى وذات الحضور الطاغي هدى وجارها الشاب الاربعيني الاعزب الذي عزف عن الزواج نتيجة امتناع والد حبيبته ياسمين عن تزويجه منها…
تستمر اللقاءات على الشرفة وتتطور لاحقا لممرات حديقة البيت الهشة كما الذكريات والايام والسنين التي تمضي ولا تعود فيتم استحضار كثير من الذكريات
وبحيث تُعيد الصّفحات إحياء ذكريات عزيزة على هدى، منذ أن تلاقى قلبها قبل ستّين عاما بزوجها زهدي، حين كانا طالبين يافعين في رحاب الجامعة، ويتم استحضار اجمل المحطات في كل تلك السنين…
بما فيها اللقاء الاول والدراسة والزواج والعمل والولاد وتعليمهم وزواجهم وسفرهم… وبعد موته، تحوّل هذا الحبّ إلى نهر جارف من الذّكريات تتداعى ايام للحضور على شرفة الجارين ومن خلالهما تتخذ سطورها عبر صفحات الرواية.
أمّا بطل الرواية الاخر وصاحب الشرفة المقابلة لهدى ذلك الجار الشّاب حبيب ياسمين، صيّاد السّمك الأربعينيّ، فشرد في متاهات الذّاكرة بحثا عن ذكريات تعيد إليه دفء الماضي، تنثال ذاكرته وتفيض وجعا بسيرة ياسمين تلك الفتاة التي احب ووقف والدها الفاسد والكذاب الاشر [صاحب الكرش] في سبيل زواجهما، ومع استذكاره واستحضار الوجع والذكريات نتعرف على اسباب عزوفه عن الزواج حسب اعتقاده…ثم ما تلبث ان تدخل هدى على الخط بطرح وجهة نظر اخرى مغايرة لاعتقاده، ويستمر الجدال وتوالد الاسئلة وتصاعد الاحداث والحبكة حتى تظهر ياسمين من جديد ونتعرف على الاسباب الاخرى من وجهة نظرها…
على الشرفة تجتمع الاحاديث عن الفقد والذكريات والحب والوله وتاخذنا عميقا لتفسير تداعياتها ومآلاتها واسبابها ودوافعها، بل اكثر من ذلك فان صاحبنا ابو سيف يذهب بنا بعيدا من خلال سبر اغوار النفس البشرية ومعرفة عوالمها ودواخلها ، كل ذلك في سبيل تعرية الفقد وتفكيك اثاره وتداعياته…
ابو سيف من خلال شخصياته يطرح اسئلة فلسفية عميقة ويوظفها على السنة ابطال روايته بكل حرفية وباسلوب سردي وقصصي ماتع ومشوق جدا؛ لكن الاهظ انه يطرح كل ابعاد مسألة الفقد بمضمونيها الموت والبعد/الفراق من كافة الجوانب [الفلسفية والاجتماعية والانسانية] والاهم انه يطرح كل هذه المفاهيم دون ان يثقل على النص او يبطيء السرد او يتوه بنا في غياهب صفحاته…
صاحبنا يمتع ويبدع حين يوظف حكايا المخيم ، لكنه يصبح اكثر متعة حين يعيد تركيب تلك الاحداث ويبني منها عالما روائيا يسلط المشهد على مقاطع وحوادث زمنية من حياتنا، لكنه في كل الاحوال يظهرها ويقدمها بصورة اجمل، وتلك هي مهمة الاديب المثلى؛ ان ينشلنا جميعا من مستنقعنا الموجع والمظلم و المليء بالالم…ينشلنا لياخذنا نحو واقع افضل وغد اجمل، وهذا المجاز بالذات نجح ابوسيف بربطه بواقع غ*ز*ة المحاصرة والتي يركب ابنائها من الشباب البحر بحثا عن المستقبل…
هذه الرواية ممرات هشة تسير بخطين متوازيين يدوران حول سؤال مركزي واحد يخالط اعماق النفس البشرية وما يمتزج فيها من شعور بالحب والفقد من خلال طرح فلسفي عميق ومشوق باسلوب روائي ممتع ومفيد.
في التفسير بينهما وما لهما وما عليهما ومبر وما مبررات كل فريق من حيث السؤال الجوهري المطروح والمركزي في الروايه بان زهدي لماذا حينما خرج اخر مره من بيته لم يخبر زوجته بذلك وحول هذا السؤال تتوالد الاسئله وتكثر الانعطافات.
في الصفحة 117 وعند انتصاف الرواية يظهر لنا مدى براعة الكاتب في هندسة روايته وتوزيع احداثها على الصفحات. فهنا بالذات يظهر التداخل بين خطي الرواية وشخصيتيه الرئيسيتين؛ شخصيتي: هدى زوجة زهدي الذي يتوفى فجاة امام الدكان دون سابق انذار … وحبيب ياسمين اللذان يجتمعان على الشرفة بحكم المجاورة في المنزل…
ففي ص 117 يقول الرواي العليم:” ثم التشابه في حالتيهما، فهي تفتقد حبيب عمرها، والجار الشاب ينضب حظه في عدم تمكنه من الحياة مع حبيبته الوحيدة ياسمين، الفرق واحد، ولكن بصفتين مختلفتين.
في الحالتين ثم شيء قهري لا راد له، هذا جعل تبادل القصص والحكايات عن الشريك ياخذ طعما مختلفا، وجعل من الحب موضوعا اثيرا على الرغم من الوجع الذي يصاحب ذلك. كانا يجدان في الحديث عنه لذة من يريد ان يقنع نفسه ان الحياة تسير كما هي، كما اراد لها. لم يتغير شيء. في حالتها [هدى] فان استرجاع تفاصيل حياتها مع زوجها طوال 60 عاما يشكل تعويضا افتراضيا ان هذه الحياة ما زالت مستمرة وان غيابه ليس الا خبرا عابرا لا تبعات له. وفي حالته فان استذكار السنتين اللتين تعلق خلالهما بياسمين تشكل عمرا ممتدا على طوال السنين رغم العشرين عاما التي مرت من بعد ذلك ولم يتحدث فيها.
هل يمكن للتخيل ان يستبدل الواقع؟ في حالات يحدث ذلك، ولكن ان يحدث ونحن ندرك انه لا يحدث فهذا يجلب لنا الما مضاعفا.
تلك الجلسات على الشرفة تحمل قدرا من المتعة والالم. في نهاية الامر نحن بحاجة لمن نشاركه حتى عالمنا الوهمي.
مع ان الوقت ستكتشف انهما بذلك يصنعان عالما حقيقيا. لم تتحدث عن زوجها قط بصيغة الماضي كانت تحرص على استخدام فعل المضارع، كانت اللغة تتامر معها وتسهل عليها المهمة. اما هو فحين يتحدث عن قصة حبه مع ياسمين التي لم تكتمل، يتسلل الاحساس لها انه ما زال يحب الفتاة، وان صيامه عن الزواج لم يتحول الى عناد، بل هو عن قناعه بانها المراة الوحيدة التي يمكن ان يسعد معها.
صاحبنا ابو سيف يمضي في مشروعه الروائي بخطى وثابة، يأخذها الى حيث يستطيع، والى حيث لا يستطيع غيره ان يفعل؛ فابو سيف حكاء من طراز رفيع، وصاحب قلم غني ومزدحم بالقصص والحكايات، وقد احسن صنعا وهو يملأه بمداد المخيم..
#مهند_طلال_الاخرس
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.