آراء متنوعة

ظلام الخدمات ونار الخطاب الطائفي..العراق نحو المجهول

في كل شتاء يكذبون علينا بحديثهم عن الكهرباء التي سيجري توفيرها في الصيف (المقبل)، وفي كل صيف مقبل تكون الكهرباء أسوأ من الذي قبله، والنتيجة أن الكهرباء انهارت بصورة شبه تامة في هذا الصيف، وان التزود بها قبل عشر سنوات كان أفضل من الآن، وفضلا عن الكهرباء فقد شح الماء عن ملايين العراقيين وهم لا يكادون يحصلون عليه إلا بشق الأنفس بعد ان اختفى في الأنابيب التي أصبحت غير ذات قيمة في كثير من مناطق العاصمة بغداد والمحافظات الاخرى، فيضطر الناس إلى شرائه من الباعة الجائلين وكأننا لم نزل نعيش في العصور الوسطى او أيام سقاة الماء الذين يبيعونه على المنازل، قبل توفر شبكات المياه الحديثة.

لقد فشلت جميع الحكومات العراقية المتعاقبة طيلة أكثر من عشرين عاما في جعل الناس يعيشون بكرامة، فما قيمة ما يسمى بالعملية السياسية إذا كنت تحرم الناس من حاجاتهم وتقلل من احترامهم؟

المسؤولون والسياسيون الآن، يحضون الناس على المشاركة في الانتخابات العامة المقبلة وهي برأيي انتخابات طائفية مزيفة وتؤدي إلى النتائج الكارثية السابقة نفسها، ولن تحل مشكلات البلد بل تفاقمها.

الملاحظ، ان سياسيين وأعلامهم ورجال دين من شتى المذاهب تحركوا منذ الآن وبقوة لطرح الخطاب الطائفي المقيت وتصعيده؛ ممثلو “الاسلام السياسي” الشيعي يخوفون جمهورهم المفترض من السلطة التي ستؤخذ من بين أيديهم ويعيدون الحديث عن مظلوميتهم التاريخية، و “الاسلام السياسي” السني يقول إنه سينجح في حيازة السلطة له، فيما يراهن الاثنان على الموقف الكردي الذي يعدونه “بيضة القبان” كما يرد في الخطابات السياسية الجديدة منذ 2003 ؛ سياسيو الشيعة بالحديث عن مظلومية “الكورد” المشتركة معهم، وسياسيو العرب السنة بالحديث عن مذهب الكورد باغلبيتهم السنية، وفي الحقيقة ان الاثنين يهملان مطالب الشعب الكردي بمجرد الانتهاء من الانتخابات او بعد تشكيل الحكومات، كما ان كثيرا من القوانين التي تتعلق بالعلاقات المشتركة جرى تعطيلها.

مع كل يوم يقترب في موعد الانتخابات العامة في التي حدد لاقامتها شهر تشرين الثاني 2025، تتصاعد بصورة لافتة الخطابات الطائفية، فهل أن السياق الطائفي اسلوب سليم لقيادة البلد؟

بعد أن عانينا طيلة أكثر من عقدين من سيادة الخطاب الطائفي الذي أعاق نمو البلد وتسبب في مشكلات كبيرة لم نزل نعاني منها، يلجأ السياسيون الى الخطاب ذاته الذي تسبب في الكوارث عن طريق إثارة التحريض الطائفي بدلا من طرح البرامج الحزبية والسياسية.

ان قيادة بلد متعدد الطوائف والاديان والقوميات مثل العراق تتطلب رؤية وطنية جامعة تتجاوز الانتماءات الضيقة، وتركز على بناء دولة المواطنة والمؤسسات.

أما عن الأسباب التي تدفع السياسيين والإعلام المرتبط بهم إلى إثارة الشحن الطائفي، بدلا من طرح البرامج الحزبية والسياسية، فيمكن إجمالها في عدة نقاط، منها سهولة التعبئة والتجييش، اذ يعد الخطاب الطائفي أداة فعالة وسريعة لتعبئة الجماهير وتحشيدهم عاطفيا، فبدلا من بذل الجهد في صياغة برامج سياسية واقتصادية معقدة وشرحها للناخبين، يجد بعض السياسيين أن إثارة المخاوف الطائفية وتقديم أنفسهم كمدافعين عن طائفة معينة أسهل وأكثر ضمانا لكسب الأصوات.

وفضلا عن ذلك يعاني عدد من الأحزاب السياسية في العراق من ضعف في برامجها السياسية والاقتصادية، وعدم امتلاك رؤى واضحة لحل المشكلات التي تواجه البلاد. في ظل هذا الفراغ، يصبح الخطاب الطائفي بديلا لملء الفراغ وإخفاء العجز في تقديم الحلول الحقيقية.

وفيما يتعلق ببعض النخب السياسية التي استفادت من النظام المحاصصاتي” بعد 2003، فإن إثارة النعرات الطائفية يضمن استمرارية هذا النظام الذي أمن لهم نفوذا ومكاسب معينة. أي تغيير نحو خطاب وطني شامل يرونه تهديدا لمصالحهم.

ولمسنا طوال العقدين الماضيين ان الخطاب الطائفي غالبا ما يستغل كوسيلة لصرف انتباه السكان عن قضايا الفساد المستشري، وسوء الإدارة، والفشل في تقديم الخدمات الأساسية؛ فعندما يكون الناس منشغلين بالصراعات الطائفية، فإنهم قد يغفلون عن مساءلة السياسيين بشأن أدائهم الحقيقي، وهكذا يريدون لهم ان يظلوا.

و في ظل غياب قوانين صارمة ورادعة ضد الخطاب الطائفي التحريضي، وضعف الدور الرقابي للإعلام المستقل، يجد البعض مساحة واسعة لممارسة هذا النوع من الخطاب من دون خوف من تبعات حقيقية.

وبعض السياسيين الذين اختلط بهم بعض رجال الدين يعتمدون في بناء قواعدهم الشعبية بشكل أساس على الانتماءات الطائفية، ويعززون هذه الانتماءات عن طريق خطاباتهم لضمان استمرار الدعم الانتخابي.

ان معظم السياسيين العراقيين الحاليين يلجؤون للخطاب الطائفي لأنه غالبا ما يكون “الطريق الأسهل” لكسب الأصوات في بيئة سياسية معينة، برغم عواقبه المدمرة على وحدة وتنمية العراق.

التحدي الحقيقي يكمن في كيفية بناء وعي مجتمعي وسياسي يرفض هذا الخطاب، ويطالب ببرامج وطنية حقيقية تركز على بناء الدولة والمواطنة.

الوضع في العراق وحوله معقد ومتشابك وهو مهدد بأحداث ربما تكون غير متوقعة، لذا فان الأسلم برأيي، هو تجاهل الانتخابات وموعدها، والعمل بنكران ذات على صياغة خطاب وطني شامل يحتفي بالانسان وهمومه، وانشاء وضع انتقالي مؤقت لرسم خريطة سياسية جديدة تأخذ العبرة من الاخفاقات التي حدثت، مع العمل على تعديل النظام الانتخابي بمجمله و سن قانون عصري للاحزاب؛ وحتى اذا تطلب الامر تغيير الدستور فالمسألة في النهاية تتعلق بتطلعات العراقيين وحياتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!