مقالات

زمن الواجهة: حين تصنع الصورة مصير المؤسسة في العالم العربي –

تُعد إدارة الانطباع (Impression Management) أحد المفاهيم المحورية في العلوم السلوكية والإدارية المعاصرة، حيث تعكس قدرة الأفراد والمؤسسات على تشكيل وتوجيه تصورات الآخرين عنهم، سواء عبر الخطاب أو الممارسة أو الصورة العامة. هذا المفهوم، الذي انبثق من دراسات علم النفس الاجتماعي، تطور ليصبح من الركائز الأساسية في العمل المؤسسي الحديث، لا سيما في السياقات التي يتشابك فيها الأداء الفعلي بالصورة الذهنية. في السياق العربي، تبرز إدارة الانطباع لا كأداة هامشية، بل كعنصر مركزي في صياغة علاقات المؤسسات مع بيئاتها الداخلية والخارجية، وفي بناء الشرعية الرمزية التي تسبق أحيانًا الكفاءة الحقيقية.

يُطرح سؤال جوهري في المشهد العربي: هل تُستخدم إدارة الانطباع كأداة للتجميل والتزييف أم كاستراتيجية واعية للاتصال الشفاف والتناغم مع الجمهور؟ الواقع يشير إلى أن الكثير من المؤسسات العربية تنزلق نحو استخدام إدارة الانطباع بوصفها قناعًا يغطي عيوب الأداء، أكثر من كونها أداة للتعبير الصادق عن هوية المؤسسة ورسالتها. نلحظ ذلك في كثافة استخدام الشعارات الفضفاضة، وحملات العلاقات العامة المكثفة التي تفتقر إلى مضمون جوهري، واللجوء إلى تضخيم الإنجازات في الإعلام دون تقديم أدلة ملموسة على أرض الواقع. هذه الممارسات لا تؤدي فقط إلى تآكل المصداقية، بل تُنتج فجوة متسعة بين الصورة والانطباع، وبين الحقيقة والممارسة.

في المجتمعات العربية التي تتسم بتركيبة اجتماعية هرمية ومركزية السلطة، تلعب إدارة الانطباع دورًا جوهريًا في بناء ما يُعرف بـ”الشرعية الرمزية”. فالعديد من المؤسسات لا تنجح فقط لأنها فعالة أو تقدم خدمات عالية الجودة، بل لأنها تحسن الظهور أمام صانع القرار أو الجمهور، أو تنجح في محاكاة نموذج معين من “النجاح الظاهري”. هذه الممارسات تؤدي إلى ما يُعرف بظاهرة “الإدارة للعرض”، حيث تُصمم السياسات والقرارات ليس وفقًا لأولويات استراتيجية أو متطلبات تشغيلية، بل وفقًا لما يثير الإعجاب أو يحقق التقدير السياسي والاجتماعي. بهذا المعنى، تتحول المؤسسات العربية إلى كيانات تهدف إلى ترسيخ حضورها في الوعي الجمعي، لا إلى تحسين كفاءتها الفعلية.

الإعلام المؤسسي في العالم العربي أصبح في كثير من الأحيان مرآة لإدارة الانطباع، لا مرآة للواقع. تُستخدم المنصات الرقمية، وصفحات التواصل الاجتماعي، والمؤتمرات الصحفية، لا لنقل الحقائق أو تعزيز الشفافية، بل لبناء سردية منظمة حول “النجاح”، و”التميز”، و”الريادة”، حتى وإن كانت تلك الصفات غير متحققة فعليًا. ويتم إنتاج تقارير سنوية مصممة بعناية شديدة لتقديم صورة مثالية، بينما يتم تجاهل المشكلات البنيوية، والتحديات الجوهرية، وأصوات العاملين والموظفين الذين يشكلون قلب المؤسسة النابض. هذا الانفصال بين الصورة والمحتوى يضعف مناعة المؤسسات، ويجعلها هشة أمام الأزمات.

إدارة الانطباع المفرطة في السياقات العربية تُنتج ثقافة تنظيمية ترتكز على المظاهر لا الجوهر، وعلى الإعجاب لا الفاعلية. في ظل هذه الثقافة، يُكافأ الموظف الذي يحسن الظهور والتواصل مع الإدارة العليا، أكثر من الموظف الذي يقدم أداءً عاليًا دون ضجيج. ويترسخ منطق الولاء للصورة بدلًا من الولاء للقيم المؤسسية. هذه الدينامية تعيق الابتكار، وتثبط روح المبادرة، وتُفرغ منظومة الحوكمة من مضمونها. والأخطر من ذلك أن هذه الثقافة تنتقل إلى الأجيال الشابة داخل المؤسسات، فتُعاد إنتاجها بشكل متكرر، مما يصعب على المنظمات التحول الحقيقي أو الإصلاح البنيوي.

غير أن إدارة الانطباع لا ينبغي أن تُفهم بالضرورة كأداة للخداع أو التجميل. يمكن توظيف هذا المفهوم بشكل إيجابي إذا ما تم ربطه بمنظومة أخلاقية ومعايير شفافة. فالمؤسسات التي تلتزم بالوضوح، وتقدم صورة حقيقية لكنها مدروسة، وتُظهر مواطن قوتها وضعفها بشجاعة، تُحقق احترامًا أعمق من مجرد إعجاب زائف. الإدارة المسؤولة للانطباع تتطلب مواءمة بين الأداء الحقيقي والصورة الذهنية، وبين القيم المعلنة والسلوك العملي. كما تتطلب إعادة النظر في استراتيجيات الاتصال المؤسسي لتصبح أكثر شفافية وصدقًا.

إن واقع المؤسسات ومنظمات الأعمال في العالم العربي بحاجة إلى نماذج أكثر أصالة في إدارة الانطباع، نماذج تستند إلى الرؤية الواقعية، والانفتاح على التقييم الذاتي، والجرأة في مواجهة التحديات، بدلًا من البحث عن الرضا اللحظي والانبهار الزائف. المطلوب ليس فقط تغيير الصورة بل تغيير الجوهر، وليس فقط تجميل الواجهة بل إصلاح البنية. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى بناء ثقافة مؤسسية جديدة، تُعيد الاعتبار للحقائق لا الانطباعات، وللعمل لا الكلام، وللإنجاز لا الشعارات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!