مقالات

دور الأموال في تغيير القناعات وشراء الذمم : الانتخابات بين السياسة والاقتصاد

لا يخفى على أحد الدور الكبير والخطير الذي تلعبه الأموال في صياغة نتائج الانتخابات وتحقيق الفوز لهذا المرشح أو تلك الكتلة… ؛  فما من عملية انتخابية في العالم إلا وتُستنزف فيها الأموال الطائلة , وترصد لها الأموال من أجل إنجاحها…… ؛  ومع ذلك، تختلف الحكومات والأنظمة في كيفية تنظيم صرف هذه الأموال، فلكل حكومة قوانينها الخاصة التي تنظم عملية الانتخابات وتحدد مقدار الصرف المسموح به، وتبين للمواطنين الآليات التي يتم من خلالها صرف الأموال في الانتخابات… ؛  فما يُعد جائزًا في دولة قد يشكل مخالفة قانونية في دولة أخرى.

 دور الأموال عالمياً في تغيير القناعات و شراء الأصوات :

يتجلى تأثير المال في الانتخابات عبر عدة مسارات:

  1. الإعلانات والدعاية: ضخ الأموال في الحملات الإعلامية المكثفة (إعلانات تلفزيونية، إذاعية، منصات رقمية، لوحات إعلانية) لتشكيل الرأي العام وصياغة القناعات لصالح مرشح أو ضد خصمه، وغالباً ما تعتمد على رسائل عاطفية أو تضليلية.
  2. التنظيم الحزبي والميداني: تمويل أنشطة الأحزاب، وتوظيف الكوادر، وتنظيم الفعاليات واللقاءات الجماهيرية الضخمة.
  3. الرشوة المباشرة وشراء الأصوات : تقديم نقد، هدايا (مواد غذائية، سلع كهربائية، وقود)، أو وعود بخدمات (وظائف، مشاريع) مقابل التصويت لمرشح معين… ؛ و هذه الممارسة محظورة قانوناً في معظم الدول لكنها مستشرية في الأنظمة الهشة.
  4. تمويل الجماعات الضاغطة: استخدام الثروة للتأثير على وسائل الإعلام أو الشخصيات المؤثرة أو حتى الأحزاب الصغيرة لخدمة أجندة معينة.

 

أمثلة سياسية عالمية:

*   الولايات المتحدة: نظام تمويل الحملات معقد ومكلف للغاية، حيث تلعب “لجان العمل السياسي”  دوراً هائلاً في جمع وإنفاق مبالغ غير محدودة تقريباً لدعم مرشحين، مما يثير مخاوف من سيطرة الأثرياء والمصالح الخاصة على السياسة (مثل حملات انتخابات الرئاسة).

*   البرازيل وفنزويلا: تاريخ طويل من اتهامات بشراء الأصوات في المناطق الفقيرة مقابل سلع أساسية أو نقد.

*   كينيا ونيجيريا: تكثر التقارير عن توزيع الأموال والهدايا قبل الانتخابات بفترة وجيزة لضمان ولاء الناخبين.

*   دول أوروبا الشرقية: بعد انهيار الشيوعية، ظهرت ممارسات واسعة لشراء الأصوات وتمويل الأحزاب من قبل رجال الأعمال المرتبطين بالفساد.

فقد شهدت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عدة دول عمليات تمويل انتخابي ضخمة، سواء عبر طرق قانونية أو غير قانونية… ؛ حيث تميزت هذه الحملات بجذب الأنظار حول مدى تأثير المال في تشكيل سياسات المرشحين واختيارهم من قبل الناخبين… ؛  وقد لعبت الأموال دورًا حاسمًا في تغيير توجهات الجمهور في كثير من الأحيان، حيث تساهم الإعلانات الممولة في تشكيل آراء الناس، وإقناعهم بتغيير قناعاتهم السياسية .

العراق: بوتقة تنصهر فيها سطوة المال والهشاشة المؤسسية

العراق ليس استثناءً، بل ربما يكون من أكثر الدول تأثراً بتأثير الأموال في انتخاباته، وذلك بسبب:

*   عوامل بنيوية: ضعف مؤسسات الدولة، وانتشار الفساد، وغياب الرقابة الفعالة على تمويل الحملات.

*   عوامل اجتماعية- نفسية (سوسيولوجية وسيكولوجية ): فقر واسع، بطالة مرتفعة، أمية سياسية، وهشاشة الطبقة الوسطى، مما يجعل شريحة كبيرة من الناخبين عرضة للإغراء المالي.

*   عوامل سياسية وثقافية ودينية: الانقسامات الطائفية والقومية العميقة، هيمنة الأحزاب والميليشيات والفصائل المسلحة ، واستخدام الخطاب الديني والعشائري لتبرير أو تغطية ممارسات شراء الأصوات.

فئات الناخب العراقي وتأثرها بالمال :

بعد عقدين من التجربة الديمقراطية الهشة، برزت أنماط سلوكية للناخب العراقي تجاه العملية الانتخابية، متأثرة برواسب الأنظمة الدكتاتورية السابقة والتجارب المريرة:

  1. الفئة اللامبالية (الأغلبية الصامتة؟): تركز على هموم المعيشة اليومية (العلاكة) وتتجاهل الشأن العام، وتتسم بالعزوف عن المشاركة السياسية ومراجعة المؤسسات… ؛ وهؤلاء يمثلون شريحة واسعة.
  2. الفئة الممتنعة (المقاطعون): والتي تعاني من إحباط عميق وكره لسياسيي “العملية السياسية” وتعتبر المقاطعة احتجاجاً، رغم كرهها للماضي الدكتاتوري… ؛ وهم ينضمون عملياً للفئة الأولى في العزوف.
  3. الفئة المترددة (المتأرجحون): تتأثر بسهولة بالدعاية والخطب والتحالفات المتغيرة، ولا تتمسك بقناعة راسخة تجاه مرشح أو كتلة، مما يجعلها هدفاً رئيسياً للدعاية المكلفة.
  4. الفئة القابلة للشراء (بيضة القبان): تصوت لمن يقدم المال أو الخدمات الملموسة (الهدايا، حل المشاكل , قضاء الحوائج , انجاز المشاريع والمعاملات … الخ )… ؛ و تُعتبر هذه الفئة محور التنافس بين المرشحين، خاصة مع عزوف الفئتين الأولى والثانية وتردد الثالثة… ؛و يُتوقع أن تشهد الانتخابات الحالية صرفاً غير مسبوق ؛ لاستهدافها من جهات داخلية وخارجية متنفذة ومتمولة .
  5. الفئة الحزبية/المسيسة قسراً أو طوعاً : مرتبطة عضوياً أو وظيفياً بأحزاب، كتل، فصائل مسلحة، أو دوائر حكومية، وتصوت وفقاً لتوجيهاتها، أحياناً تحت ضغط مباشر أو ضمني.

 

معضلة المرشح العراقي: بين المبدأ والواقع المرير

يواجه المرشح الذي يرى ضرورة المشاركة لخدمة المصلحة الوطنية أو المكونية أو الحزبية معضلة أخلاقية وقانونية:

*   الواقع: يعلم أن الفوز غالباً ما يتطلب صرف أموال طائلة لاستمالة الفئة القابلة للشراء والمترددة، خاصة في ظل ضعف مؤسسات الدولة وانتشار هذه الظاهرة.

*   التبرير: يخشى أن يؤدي امتناعه عن الصرف إلى فوز خصوم مدعومين إقليمياً ودولياً، مما قد يضر – حسب اعتقاده – بالبلد أو مكونه أو التجربة الديمقراطية برمتها… ؛ و هذا التبرير يفتح الباب على مصراعيه لاستمرار دوامة الفساد.

شواهد ميدانية على سطوة المال في الانتخابات العراقية :

تتناقل الأوساط السياسية والإعلامية في العراق شواهد صارخة على حجم الإنفاق غير المشروع:

*   حالة مرشح  (م) من مكون (س) في بغداد: رغم أن غالبية سكان دائرته الأصلية من مكونه (س)  فضلا عن انه من محافظة اخرى ، اختار الترشح في بغداد ذات الغالبية من مكون آخر (ش)… ؛ والشيء بالشيء يذكر ؛ قامت إحدى منسقات حملته (من المكون ش) بإغراء ناشط مدني (محام من المكون ش) بعروض مغرية:

    *   راتب شهري 4 ملايين دينار عراقي.

    *   25 ألف دينار عن كل اسم يسجله شهرياً (بغض النظر عن تصويته لاحقاً).

    *   شراء الصوت الانتخابي للفرد الواحد بمبلغ 250 ألف دينار ( وقد يصل للمليون مع قرب الانتخابات).

*   وهذا البذخ بالأموال بسبب التمويل الخارجي: اذ يُشاع تورط جهات إقليمية (قطر، تركيا , السعودية , الامارات , الكويت ) في تمويل هذا المرشح وغيره بأموال طائلة لتغيير نتائج الانتخابات.

*   تسعير المقاعد: تنتشر إشاعات في الأوساط السياسية عن “تسعير” مقاعد برلمانية في دوائر معينة بملايين الدولارات (تتراوح الشائعات بين مليون وخمسة ملايين دولار للمقعد).

 

الاستنتاج:

تشير هذه المؤشرات بوضوح إلى أن القوى الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى النخب المحلية الفاسدة، تعمل بجد لتحقيق أهدافها عبر بوابة تمويل الحملات وشراء الأصوات… ؛ و في مثل هذا المناخ، يصبح الرهان على البرامج الانتخابية الجادة والعلاقات المجتمعية وحدها رهاناً خاسراً في المعادلة العراقية الحالية… ؛ وستكون النتائج، للأسف، غالباً ما تكون حصيلة الجهة الأقدر على الصرف وبذل الاموال وتوزيع الهدايا والعطايا والأكثر جرأة في اختراق القوانين والحدود الأخلاقية .

 

التوصيات :

مواجهة هذه الآفة الخطيرة تتطلب إرادة سياسية حقيقية وإصلاحات جذرية تشمل:

  1. تشريعات صارمة: تفعيل وتطوير قوانين تمويل الحملات الانتخابية وفرض رقابة مستقلة وفعالة.
  2. تعزيز الشفافية: إلزام المرشحين والكتل بالإفصاح الفوري والتفصيلي عن مصادر تمويلهم ومصروفاتهم.
  3. مؤسسات رقابية قوية: تمكين هيئة النزاهة والجهات الرقابية القضائية من ملاحقة مخالفات شراء الأصوات والتهرب من قوانين التمويل.
  4. توعية الناخب: حملات تثقيفية مكثفة لتوعية المواطنين بحقوقهم ورفضهم لممارسة بيع الأصوات وتبعاتها المدمرة على الديمقراطية.
  5. معالجة الأسباب الجذرية: مكافحة الفقر والبطالة وتقوية مؤسسات الدولة لتقليل قابلية الناخبين للاستغلال المالي.

إن لم تُتخذ هذه الإجراءات الحاسمة، ستظل صناديق الاقتراع في العراق، رغم وجودها الشكلي، رهينة لسطوة الذهب وتأثير الأجندات الخارجية، مما يقوض أي أمل حقيقي في بناء ديمقراطية سليمة ومستقبل مستقر للعراق.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!