آراء متنوعة

دفتر ذكرياتنا القديم: رحلتنا بين التأمل وإنصاف

د. مريم خلف الشمري

في زاوية هادئة من حياتنا، نجلس أحيانًا لنكتب في دفاترنا اليومية، ندوّن أفكارنا، انطباعاتنا، وحتى الحقائق التي نختار مشاركتها مع أنفسنا. دفتر ذكرياتنا القديم، تلك الصفحات الصفراء التي تحمل خطوطنا المتعثرة من سنوات مضت، ليس مجرد أوراق بل مرآة تعكس تأملاتنا وصمتنا. نعود إليه،لنجد أنفسنا نعيش مجددًا أحداثًا، مشاعر، وقصصًا اختزلناها بين الكلمات والفراغات. نرى بين السطور ما اخترنا كتابته، وما تركناه في الظل. إنه شهادة على كيف اختزلنا الحقائق، لنحمي أنفسنا ولنحترم عالمنا.

هذه الدفاتر، بكل بساطتها، تدعونا للتفكير: هل يمكن أن تكون نقطة انطلاق لاستعادة الحقيقة الكاملة؟ عندما نراجعها بعد سنوات، قد ندرك أن ما اخترنا إخفاءه كان جزءًا أساسيًا من قصتنا. التحدي يكمن في شجاعتنا لنكتب، ليس فقط لنرى، بل لنعترف ونواجه. فالحقيقة، مهما كانت مؤلمة، هي الطريق إلى التحرر من قيود الخوف والضغط. ومن هنا تبدأ رحلتنا في استكشاف لماذا نلجأ إلى إنصاف الحقائق.

نكتب نصف الحقائق لأن (الكذب الكامل قد يكون صعبًا، بينما الحقيقة الكاملة قد تكون مخيفة). نحن نختار ما يجعلنا مرتاحين، ما يحافظ على صورتنا أمام الآخرين، أو ما يتجنب الصراع. لكن، في هذه العملية، نفقد جزءًا من أنفسنا ومن قدرتنا على رؤية العالم كما هو، لا كما نريد أن يكون.

ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة: هل طرح الحقيقة الكاملة يحمل في طياته شيئًا من الخدش والألم؟ الجواب، في أغلب الأحيان، نعم. الحقيقة، بطبيعتها، قد تكون قاسية. قد تكشف عيوبنا، تدمر أوهامنا، أو تؤدي إلى فقدان ما نعتز به، سواء كان ذلك علاقة، مكانة، أو حتى صورة مثالية عن أنفسنا. لذلك، نلجأ إلى “إنصاف الحقائق”، حيث نعطي جزءًا من الواقع ونخفي الجزء الآخر، آملين أن يبقى العالم مستقرًا، وأن نستمر نحن في حالة الراحة النسبية.

لكن، هل هذا العمل منصف حقًا؟ فبينما نحاول حماية أنفسنا والآخرين من الألم، نحن، في الوقت نفسه، نضعف الثقة ونعمق الشك. فالحقيقة، مهما كانت مؤلمة، هي الطريق الوحيد للبناء الحقيقي، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. الخوف من الألم قد يبدو منطقيًا، لكنه، في نهاية المطاف، يقودنا إلى عالم من الغموض والتناقضات.

عندما نفكر في سبب امتناعنا عن طرح الحقائق الكاملة، لا يمكننا تجاهل التأثير العميق للبيئة المحيطة بنا، والظروف النفسية، الاجتماعية، السياسية، والسلطة التي تحكم حياتنا. ليست المسألة مجرد اختيار شخصي أو وعي محدود، بل هي نتاج تفاعلات معقدة تفرض علينا قيودًا، سواء كنا واعين لها أم لا. فهل هذه العوامل تجعلنا نختبئ وراء نصف الحقائق، وهل الخوف من السلطة هو الدافع الأكبر وراء ذلك؟

الصراع الداخلي: الظروف النفسية والاجتماعية

من الناحية النفسية، قد نجد أنفسنا عالقين بين رغبتنا في الصدق ومخاوفنا من العواقب. التوتر، القلق، أو حتى الشعور بالذنب قد يدفعنا لتقديم صورة مشوهة عن الواقع. على المستوى الاجتماعي، الضغط من العائلة، الأصدقاء، أو المجتمع قد يجعلنا نضع فلترًا على الحقائق، حيث نختار ما يحافظ على التوازن الاجتماعي على حساب الشفافية. فالحقيقة الكاملة، في بعض الأحيان، قد تهدد استقرارنا الاجتماعي أو تثير الجدل، مما يدفعنا إلى اللجوء إلى “إنصاف الحقائق” كحل وسط.

ظلال السلطة

لكن السياق السياسي، ربما، هو الأكثر تأثيرًا وخطورة. في بيئات يهيمن عليها الاستبداد أو القمع، تصبح الحقيقة الكاملة كنزًا نادرًا، بل وممنوعًا في كثير من الأحيان. السلطة، سواء كانت حكومية، مؤسسية، أو حتى اجتماعية، تمارس ضغطًا كبيرًا لضمان أن تُروى القصص وفقًا لروايتها الرسمية. الخوف من الملاحقة، السجن، أو حتى التشهير يجعل الكثيرين يختارون الصمت أو تقديم نصف الحقائق بدلاً من مواجهة العواقب. فالسلطة، بطبيعتها، تحب السيطرة على السرد، وأي محاولة لكشف الحقيقة الكاملة قد تُعتبر تهديدًا يجب قمعه.

العامل الذي لا يُمكن تجاهله (الخوف من براثين السلطة)

السؤال الأكثر أهمية هو: هل الخوف من الوقوع في براثين السلطة هو الدافع الأساسي وراء امتناعنا عن طرح الحقائق؟ الإجابة، في كثير من الحالات، هي نعم. السلطة ليست مجرد كيان خارجي، بل هي نظام يتغلغل في حياتنا اليومية، يملي علينا ما يجب قوله وما يجب إخفاؤه. في ظل هذا الضغط، يصبح إنصاف الحقائق استراتيجية بقاء. نحن لا نختار الصمت أو التحريف بدافع الخيانة، بل بدافع الحفاظ على أنفسنا وعائلاتنا. لكن، في هذه العملية، نفقد جزءًا من حريتنا وأصالتنا.

السؤال الأكبر هو: هل يمكننا أن نكتب الحقيقة الكاملة دون خوف؟ ربما الإجابة تكمن في إعادة تعريف ما نعنيه بالحقيقة. ليست الحقيقة دائمًا سلاحًا يدمر، بل قد تكون شمعة تضيء الطريق. لكن للوصول إلى هذا المستوى، نحتاج إلى تطوير إدراكنا ووعينا، وتجاوز مخاوفنا من الفشل أو الرفض او السلطة.

صوت بين الإدراك والصمت : لماذا نلجأ إلى إنصاف الحقائق؟

أكتب اليوم ليس ككاتبة محترفة أو شاعرة متمرسة، بل كامرأة تحمل في داخلها تأملات وخبرات ومفارقات عاشتها عبر سنوات الحياة. أدون ما مررت به من خيبات وانتصارات، مستمدة كل ذلك من تجربتي الحسية، من زاوية إدراكي ووعيي الخاص. لكن، لماذا أختار إنصاف الحقائق؟ الإجابة تكمن في طبيعتي البشرية، وفي العالم الذي أعيش فيه.

أولاً، لأن ما أراه وأدركه قد لا يكون هو ما ترينه أنتِ، أو يراه الآخرون. ما يروق لي من تجارب أوذكريات قد يكون مرًا في عيون القارئ. وجهة نظري كامرأة، المشكلة بتفاصيل حياتي الخاصة، لا تعكس بالضرورة المنظور الكامل لأي قضية أو حالة. فكل إنسانة تنظر من زاوية خاصة، تشكلها تجربتها وإدراكها. عندما أكتب، أقدم جزءًا من الحقيقة كما أعيشها، لكنني أعي أن هناك زوايا أخرى، منظورات أخرى، قد تضيف ألوانًا مختلفة للصورة. لهذا أختار إنصاف الحقائق، تاركة المجال للآخرين ليرون ما أرى، أو ليضيفوا ما أغفلته.

الألم المقدس: حماية النفس والآخرين

ثانيًا، لأن الحقيقة الكاملة تحمل في طياتها خدشًا وألمًا، لي وللغير. هناك مواقف وخبرات عشناها، لكننالا نجرؤ على طرحها بجرأتها الكاملة. نجمل بعض التفاصيل، نزينها بألوان الرقة، ونترك أجزاء أخر بدون لمس، لأسباب تتشابك فيها الأخلاق، الدين، المجتمع، وحتى السياسة. فكم من قصة، لو رويت بحذافيرها، قد تؤذي قلبًا أو تكسر صورة أو تثير عاصفة؟ نختار الصمت عن بعض الزوايا لنحمي أنفسنا ولنحترم الآخرين، مدركات أن الكلمات، مثل السيوف، قد تقطع أو تشفي.

صوت المرأة غير المكتمل: تأملات بين الخطأ والصواب

لست سوى امرأة تحاول أن تضع أفكارها على الورق، ربما أخطئ فيها، وربما أصيب. هذه التأملات ليست دعوة للنقاش الأكاديمي، بل صرخة داخلية نطلقها لنعبر عما يخالجنا. ومع ذلك، ندرك أن إنصاف الحقائق ليس نقصًا، بل اختيارًا. فبينما نترك بعض القصص دون رواية، نمنح أنفسنا حرية التعبير دون أن نثقل كاهلنا أو كاهل قارئاتنا بالثقل الذي قد لا يحتملنه.

غموض إنصاف الحقائق: دعوة للتخيل

إنصاف الحقائق يخلق غموضًا بطبيعته. عندما أرجع إلى دفتر يومياتي، وأجد أنني سجلت جزءًا من يومي دون الخوض في التفاصيل العميقة، أترك القارئ أمام فراغ يدفعه للتساؤل: ما الذي لم أكتبه؟ هذا الغموض ليس عيبًا، بل جاذبية. فالقارئ، سواء كان رجلاً أو امرأة، يجد نفسه مدعوًا لملء الفراغات بتخيلاته، مما يجعل النص تفاعليًا. هذه الجاذبية تنبع من قدرتنا كبشر على استكشاف ما لم يُقَل، سواء في القصص الشخصية أو الروايات الأدبية أو حتى التحليلات السياسية.

ليس حكرًا على النساء: تجربة إنسانية عامة

قد يبدو إنصاف الحقائق مرتبطًا بتجربة المرأة، كما عبرت عنها من قبل، حيث نختار حماية أنفسنا أو الآخرين من الألم. لكن هذه الظاهرة ليست حكرًا علينا. الرجال أيضًا، في سياقاتهم الخاصة، يمارسون إنصاف الحقائق، سواء للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية أو لتجنب الصراع. على سبيل المثال، قد يروي رجل قصة نجاح دون الخوض في التحديات التي واجهته، أو يصف حدثًا تاريخيًا دون كشف كل الجوانب السياسية. إنها سمة إنسانية، لا جنسية، تنبع من رغبتنا في التوازن بين الصدق والحماية.

انصاف الحقائق ليس حكرًا على القضايا العاطفية

كثيرًا ما يتم ربط إنصاف الحقائق بالقضايا العاطفية – الحب، الخيبة، الألم – كما يظن الكثير عندما نذكر تأملاتنا الشخصية. لكن هذا النهج يتجاوز العواطف إلى مجالات أخرى. في الكتابة السياسية، على سبيل المثال، قد يختار المؤلف إخفاء تفاصيل حساسة لأسباب أمنية أو دبلوماسية، مما يضيف غموضًا يجذب القراء لتحليل الخفايا. في العلوم أيضًا، قد يقدم الباحث نتائج جزئية دون الكشف عن المنهج الكامل، مما يثير الاهتمام باستكشاف المزيد. إنصاف الحقائق، إذن، أداة تعبيرية تتعدد استخداماتها حسب السياق.

الجاذبية في التفاعل: دعوة للمشاركة

ما يجعل إنصاف الحقائق جذابًة هو دورها في خلق تفاعل. عندما أكتب وأترك بعض الزوايا دون لمس، سواء لأسباب أخلاقية أو اجتماعية، أدعو القارئ – رجلاً كان أو امرأة – ليكون شريكًا في السرد. هذا الغموض يحفز التفكير النقدي، ويفتح الباب لتأويلات متعددة. سواء كانت القضية عاطفية، سياسية، أو فكرية، فإن ترك مسافة للتخيل يضيف عمقًا للنص، مما يجعله أكثر جاذبية من الحقيقة المطلقة التي قد تكون جامدة.

إنصاف الحقائق، إذن، يحمل غموضًا وجاذبية لا حدود لهما، لكنه ليس حكرًا على النساء أو القضايا العاطفية. إنه فن إنساني يمارسه الجميع، في سياقات متنوعة، ليخلق توازنًا بين التعبير والحماية.
فليعذرني قارئي أو قارئتي إن وجدوا كلماتي ناقصة أو مترددة او غامضة أحيانًا، فهي دعوة لكم لتكملوا الصورة من زواياكم. الذكريات، سواء كانت في دفاترنا أو أذهاننا، تظل مصدر هذا الغموض الجذاب، ودعوة لنا جميعًا لنشارك في نسج القصص، فإنصاف الحقائق ليس هروبًا، بل محاولة للتوازن بين ما نريد قوله وما يمكننا قوله. نكتب لنعبر، لنتأمل، ولنترك بصمة، لكننا نفعل ذلك بضمير حي، يحترم نفسه والآخرين. وربما، في صمتنا عن بعض الزوايا، تكمن الحكمة التي تدعوكِ، أيتها القارئة، لتكملي القصة من منظوركِ الخاص.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!