آراء متنوعة

دبلوماسية الابتكار – الوجه الجديد للاقتصاد المستدام

الدكتور زياد الزيدي – المملكة المتحدة
مستشار الإدارة الاستراتيجية والتحول المؤسسي

يقول الاقتصادي الاميركي الحائز على نوبل، بول رومر1955:

(إن النمو المستدام لا يبنى على الموارد وحدها، بل على أفكار جديدة تطبق بطرق جديدة).

هذه المقولة تجسد الدور الفاعل الذي يلعبه الابتكار في تحقيق النمو المستدام الذي تتنافس فيه الأمم والدول وحتى المصانع والمؤسسات البحثية والعلمية. وبات الابتكار العملة الاقتصادية العالية القيمة، لأنها تتجاوز محدودية التداول الى ان تصبح المحرك الاستراتيجي للتنافس والنمو الاقتصادي المستدام. ففي نهايات القرن العشرين بدأت تتشكل ملامح ما يسمى بتبادل الابتكار بين الدول، حيث ان العولمة الاقتصادية، وتسارع الثورة الرقمية، وتدويل سلاسل الإنتاج شكلت المسرعات الثلاث لتبادل الابتكار بين الدول. في تلك المدة كانت الدول الصناعية الكبرى تتنافس على اسرار التكنولوجيا وتقيد تصديرها بشدة. لكن مع توقيع اتفاقية TRIPS ضمن منظمة التجارة العالمي عام 1994، أصبح للملكية الفكرية بعد دولي، وتم إقرار مبدأ “الحماية مقابل الانفتاح”، ومنها بدأت الدول تشارك افكارها واختراعاتها ضمن اطر حماية وقانونية منظمة. أما في التسعينات بدأت الشراكات الدولية تتبلور بصورة أوضح، كبرنامج التعاون الأوروبي في مجال البحث والتطوير EUREKA، وبرامج تبادل الابتكار بين الولايات المتحدة واليابان في أشباه الموصلات، التي اعتبرت حينها من أوائل النماذج الناجحة في دمج الابتكار داخل الاتفاقيات التجارية. مع وصولنا للألفية الجديدة تحققت طفرة الابتكار الرقمي، فاضطرت الدول الى تجاوز فكرة المنافسة المغلقة لتنتقل الى التنافس التعاوني Co-Opetition حيث تتعاون الدول على توليد الأفكار، ثم تتنافس في تطبيقها وتسويقها وتصديرها. في العقد الأخير، جاءت التحديات الجديدة مثل التغير المناخي، والاوبئة، وأمن الطاقة، لتدفع الدول الى بناء تحالفات ابتكارية مرنة Agile Innovation Alliances، والذي يعني وجود ابتكارات متعددة الأطراف تركز على القدرة السريعة على التكيف Adaption مع المتغيرات التكنولوجية او الطارئة العالمية (مثل الجوائح أو أزمات الطاقة)، وتبنت الدول كذلك ما يعرف بـ Flexible Innovation Partnerships بشكل أوسع في السياسات الحكومية والاتفاقيات الدولية، ويركز على مرونة شروط التعاون، بما في ذلك نقل التكنولوجيا، وحقوق الملكية الفكرية وتبادل الباحثين أو التمويل المشترك، كما ان تقارير OECD وتقارير World Economic Forum يستخدم مصطلح Agile Innovation Ecosystems أو Agile Innovation Networks للإشارة الى النماذج متعددة الأطراف التي تتسم بالمرونة وسرعة الابتكار في بيئة دولية.

في عام 2015 جاءت مبادرة Mission Innovation لتجمع أكثر من عشرين دولة، من بينها الولايات المتحدة، الصين، ألمانيا، الإمارات، والهند، في شراكة طموحة لتسريع البحث والتطوير في الطاقة النظيفة. وبموجب هذه المبادرة، تضاعفت الاستثمارات الحكومية في الابتكار المناخي، ما انعكس على ولادة آلاف الشركات الناشئة ونمو صادرات التقنيات الخضراء في الدول المشاركة. وبموازاة ذلك، وقعت 137 دولة على بروتوكول ناغويا Nagoya Protocol، الذي أرسى قواعد عادلة لتقاسم المنافع الناجمة عن استخدام الموارد الوراثية، وهو ما أسهم في حماية الابتكار الحيوي وحقوق الشعوب الأصلية، وخلق بيئة آمنة لتطوير أدوية ومحاصيل تستفيد منها دول الشمال والجنوب على حد سواء. أما في قطاع الطاقة، فكان لـ شراكة كفاءة الطاقة الدولية IPEEC، التي ولدت من قلب مجموعة الثماني G8 ثم توسعت لتشمل دول العشرين G20، دور محوري في تبادل تقنيات خفض الاستهلاك وتعزيز الصناعات الخضراء، خاصة في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا. ولم تكتف الدول المتقدمة بذلك، بل انطلقت مبادرات جديدة من الجنوب العالمي، مثل منظمة التعاون الرقمي DCO، التي ضمت السعودية والإمارات وسلطنة عمان وقطر وباكستان وغيرها، لتقود التحول الرقمي وتعزز الابتكار التكنولوجي العابر للقارات، في خطوة تؤكد أن الدبلوماسية الاقتصادية الجديدة تكتب بلغة الأكواد، لا البيانات السياسية وحدها.

ثم تطورت سياسات تبادل الابتكار على المستوى الثنائي بين الدول، لتشمل اليوم أبعادا استراتيجية واقتصادية وحتى دبلوماسية، بل باتت بعض الدول، مثل سنغافورة وهولندا وكوريا الجنوبية تضع تبادل الابتكار في قلب سياساتها الخارجية. فعلى سبيل المثال انه في 2017 أطلقت سنغافورة مبادرة GIA – Global Innovation Alliance، تهدف الى ربط الشركات والمبتكرين السنغافوريين بأسواق الابتكار العالمية من خلال اتفاقيات ثنائية وشراكات في مدن رئيسية مثل برلين، باريس، سان فرانسيسكو، بكين، شنغهاي، والمميز أن التجربة تدار من وزارة الخارجية السنغافورية بالتعاون مع هيئة تطوير الاقتصاد EDB ووكالة المؤسسات Enterprise Singapore وتعد جزء من أدوات الدبلوماسية الاقتصادية والابتكارية الرسمية لسنغافورة. واستطاعت من خلال مبادرتها هذه ان تحقق شراكات مع العديد من الدول منها فرنسا لتبادل الابتكارات في مجالات المدن الذكية والتنقل الحضري، ما أسفر عن انشاء مشاريع مشتركة بين شركات فرنسية وسنغافورية، ما أدى الى زيادة صادرات سنغافورة من حلول المدن الذكية الى أوروبا بنسبة 17% خلال سنتين. كما أسفر الاتفاق السنغافوري – الألماني في مجال التصنيع الذكي عن تبادل براءات اختراع ومراكز بحث مشتركة. هذه الشراكة ضاعفت حجم التبادل التجاري بين البلدين في مكونات الأتمتة الصناعية من 3.2 مليار دولار في 2019 إلى أكثر من 6.7 مليار دولار في 2024. وفي هذا السياق، يؤكد الخبير الألماني هانز ويرنر سين أن هذه الاتفاقات ليست فقط تجارة، بل تعيد برمجة هندسة النمو الاقتصادي عبر التكنولوجيا المشتركة.

ومن أنجح الأمثلة على استثمار الدول في التبادل الابتكاري، يبرز برنامج التعاون التكنولوجي بين فنلندا والهند، والذي أطلق عام 2014 في مجالات الذكاء الاصطناعي والتعليم الرقمي والطاقة النظيفة. هذا البرنامج أدى إلى إنشاء أكثر من 100 شركة ناشئة مشتركة خلال خمس سنوات، وأسهم في نقل تقنيات التعليم الفنلندية إلى القرى الهندية، مقابل وصول فنلندا إلى حلول برمجية رائدة منخفضة التكلفة. ونتيجة لذلك، ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 68%، وتم تصدير بعض التقنيات المشتركة إلى أسواق أخرى مثل إفريقيا وأمريكا الجنوبية، ما جعل التجربة تصنف من قبل OECD كأحد (أنجح نماذج تبادل الابتكار المزدوج الاتجاه في العالم). كما أن اتفاق الإمارات مع كوريا الجنوبية لتبادل الابتكار في الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية السلمية قد فتح الباب أمام تحولات اقتصادية واسعة النطاق. فبموجب هذا الاتفاق، تم إنشاء مراكز بحث مشتركة في أبو ظبي وسيؤول، ما أدى إلى تطوير جيل جديد من خوارزميات الطاقة الذكية، واستخدمت في محطات براكة (سلسلة محطات الطاقة النووية السلمية في أبو ظبي)، الأمر الذي أسهم في خفض الاعتماد على واردات الغاز بنسبة 23% في الإمارات خلال عامين، ورفع صادرات كوريا في مكونات الذكاء الاصطناعي للطاقة بنسبة 30%. وفي مجال الابتكار الزراعي لا يفوتني ان اذكر الاتفاق التشيلي – الكندي، حيث استفادت تشيلي من التكنولوجيا الكندية في الزراعة الدقيقة (Precision Agriculture) ما أدى إلى تقليص الهدر في المياه بنسبة 40%، وزيادة إنتاجية قطاع الفاكهة بـ 27%، في حين حصلت كندا على امتيازات توريد البذور المتطورة والآلات الزراعية، مما رفع صادراتها الزراعية إلى تشيلي بنسبة 52%.

هذه النماذج وغيرها تظهر بوضوح أن تبادل الابتكار أصبح استراتيجية اقتصادية متكاملة تعزز الأمن الصناعي والغذائي والطاقي للدول، وتخلق وظائف نوعية، وتفتح أسواقا جديدة. بل إن بعض الاقتصاديين، مثل داني رودريك، بدأوا يطالبون بإعادة تعريف اتفاقيات التجارة الحرة لتشمل عناصر إلزامية لتبادل الابتكار والمعرفة، باعتبارها الضمان الوحيد لعدالة توزيع العوائد في الاقتصاد العالمي الجديد. فالمعادلة اليوم واضحة، من لا يبتكر أو يتحالف مع من يبتكر، يظل في الهامش. كما أن أي تبادل ابتكاري لا يمكن أن يزدهر من دون بيئة تشريعية تحمي حقوق الطرفين وتمنح الابتكار قيمته القانونية. ولهذا، باتت الاتفاقات الثنائية الناجحة تتضمن بنودًا واضحة ومفصلة حول حماية الملكية الفكرية، وتوزيع العوائد، ونقل المعرفة بشروط عادلة. فعلى سبيل المثال، اتفاق اليابان والبرازيل في قطاع التكنولوجيا الزراعية تضمن بند ينص على حماية البراءات المشتركة لمدة عشر سنوات، مع تقاسم الملكية بنسبة 60/40 حسب المنشأ الأصلي للفكرة. هذا النوع من التشريعات ساهم في خلق بيئة ثقة بين المؤسسات البحثية، ومنع حالات السرقة أو الاستغلال غير المشروع للأفكار، التي لطالما عرقلت التعاون سابقا. وتؤكد منظمة الويبو WIPO أن أكثر من 40% من النزاعات التجارية المتعلقة بالتكنولوجيا في العقد الماضي كان سببها غموض أو ضعف بنود حماية الابتكار ضمن الاتفاقات الدولية. من هنا، أصبحت التشريعات الحديثة تعتمد على ما يسمى بـ (نظام الابتكار الآمن) Trusted Innovation Ecosystem حيث تسجل الحقوق الفكرية الناتجة عن التعاون في قواعد بيانات محمية، مع صلاحيات استخدام محددة بدقة لكل طرف. هذه البيئة القانونية المتقدمة ليست مجرد أداة ضبط، بل محفز رئيسي للثقة والاستثمار في مشاريع ابتكارية عابرة للحدود، خصوصا في القطاعات ذات الحساسية التقنية العالية مثل الذكاء الاصطناعي، والطاقة، والدواء.

وفي سياق دولنا العربية، بات من الضروري الانتقال من استيراد التكنولوجيا إلى صياغة استراتيجية ابتكار متبادل قائمة على الشراكة لا التبعية. فمثلا، يمكن للدول العربية أن تبدأ بتحديد الأولويات الوطنية للابتكار، مثل الطاقة المتجددة، الأمن الغذائي، والتقنيات المالية، ثم تبني شراكات استراتيجية مع دول تمتلك تفوقا تقنيا في هذه المجالات، مع التركيز على نقل التكنولوجيا لا فقط استيراد المنتجات. أحد أهم المقترحات يتمثل في إنشاء منصات إقليمية للابتكار المشترك، تربط الجامعات، مراكز الأبحاث، والصناعات الخليجية بنظرائها في آسيا وأوروبا، ضمن أطر قانونية مرنة تحفظ حقوق الملكية الفكرية وتضمن تقاسم العوائد. وباتت الحاجة ملحة لتأسيس كيان عربي مشترك معني بالابتكار والدبلوماسية العلمية، يشبه نموذج EUREKA الأوروبي، يتولى إدارة مشاريع عابرة للحدود، وصياغة أجندة ابتكارية موحدة، وتمويل المبادرات الجماعية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الأمن الغذائي، والمياه.

كما أن تعزيز الدبلوماسية الابتكارية، أي وجود ملحقين علميين وتقنيين في السفارات، بات ضروريا، لتسهيل توقيع اتفاقيات ابتكارية، ومتابعة تنفيذها، وربطها بأولويات السياسات الوطنية. وينبغي أن تترافق هذه الجهود مع تطوير تشريعات وطنية لحماية الابتكار المشترك، تشمل تسجيل البراءات المشتركة، وتسهيل إنشاء الشركات الناشئة العابرة للحدود. ويمكن كذلك إطلاق صناديق تمويل إقليمية للابتكار التبادلي، بشراكة بين القطاعين العام والخاص، على غرار ما قامت به سنغافورة مع أستراليا.

إن العالم لا ينتظر، ومن لا يدخل نادي الابتكار الدولي بشراكات فاعلة وذكية، سيبقى مستهلكا دائما للمعرفة، لا شريكا في صناعتها. ودولنا اليوم في الخليج العربي مثلا تمتلك رأس المال، والموارد البشرية المتعلمة، والبنية التحتية الرقمية، ما يمكنها من تعظيم العوائد من الابتكار من خلال دبلوماسية ابتكارية داعمة وممكنة للتنمية بصورة مستدامة ومستشرفه لاحتياجات المستقبل، ومتميزة كذلك بعالمية الأثر.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!