تونس تُحاكم الثورة.. من حلم الديمقراطية إلى كوابيس التآمر. –
منذ الثورة التونسية التي أطاحت بنظام بن علي عام 2011، اعتُبرت تونس استثناءً في المشهد العربي، كونها نجحت — ولو جزئياً — في بناء ديمقراطية ناشئة. لكن المسار الذي بدا واعداً يشهد اليوم تراجعاً خطيراً، مع تواتر قضايا تتعلّق بـ”أمن الدولة” وصدور أحكام قاسية في حق شخصيات سياسية بارزة. قضية التآمر على أمن الدولة لم تعد مجرّد ملف قضائي، بل تحوّلت إلى نقطة تحوّل تهدد بتفكيك ما تبقى من الحياة السياسية في البلاد.
القضية: اتهامات أمنية أم تصفية سياسية؟
في الأشهر الماضية، تصدّرت قضية “التآمر على أمن الدولة” المشهد السياسي والإعلامي في تونس، مع اعتقال ومحاكمة عدد من رموز المعارضة، من بينهم وزراء سابقون، محامون، ونشطاء سياسيون، بعضهم لعب أدواراً محورية بعد الثورة. تُهم ثقيلة وُجّهت إليهم، تتعلق بالتآمر ضد مؤسسات الدولة، والتخابر مع جهات أجنبية، والتحريض على الفوضى.
ورغم خطورة التهم، إلا أن الغموض لفّ معظم مراحل التحقيق، وسط غياب الشفافية الكافية ورفض الجهات الرسمية الكشف عن تفاصيل دقيقة، ما عمّق الشكوك حول الخلفيات السياسية لهذه القضية. المعارضة، من جهتها، رأت في هذه المحاكمات “محاولة لتصفية الحسابات وخنق الأصوات الناقدة”، في حين تصرّ الرئاسة على أن “الدولة في مواجهة مؤامرات تهدد كيانها”.
تداعيات سياسية خطيرة: تفكيك الحياة الحزبية وتشويه المعارضة
أحد أخطر ما نتج عن هذه القضية هو تضييق الفضاء السياسي وتهميش المعارضة. فقد أدت الأحكام والإيقافات إلى شلل كبير في النشاط السياسي للأحزاب التي تشكل العمود الفقري للمعارضة، مثل “جبهة الخلاص الوطني”، والنهضة، والتيار الديمقراطي، وغيرها. ومن خلال اتهام رموز سياسية بارزة بالخيانة والتآمر، سُوّق لفكرة أن العمل السياسي المعارض في حدّ ذاته تهديد للأمن الوطني.
هذا التوجّه لا يُضعف فقط المعارضة، بل يعمّق القطيعة بين السلطة والمجتمع السياسي، ويقود إلى نظام أحادي الصوت، يعيد إلى الأذهان ممارسات ما قبل الثورة. إنه انتقال من ديمقراطية تعددية إلى سلطة تنفيذية شبه مطلقة، تتعامل مع السياسة بمنطق الأعداء لا بمنطق الشركاء.
مخاوف حقوقية وقضائية: القضاء في قلب العاصفة
توسيع استخدام تهم “أمن الدولة” لاعتقال ومحاكمة معارضين يفتح الباب على مصراعيه أمام انتقادات محلية ودولية حول استقلالية القضاء. فمنظمة “هيومن رايتس ووتش” اعتبرت أن المحاكمات شابتها “إخلالات خطيرة”، بينما عبّرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان عن قلقها من “توظيف القضاء لتقويض حرية التعبير”.
ووسط صمت رسمي حيال هذه الانتقادات، تصاعدت حملات دعم المعتقلين داخل تونس وخارجها، وتحوّلت بعض المحاكمات إلى قضايا رأي عام، لا تقل رمزية عن قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لما تحمله من دلالات على الانحدار السياسي والأخلاقي في التع-اط*ي مع المعارضة.
صمت شعبي… لكنه ثقيل
ورغم خطورة ما يحدث، لم يشهد الشارع التونسي تحركات احتجاجية كبرى تضاهي ما جرى عقب الانقلاب على البرلمان سنة 2021، ما يطرح تساؤلات حول حالة الإحباط واللامبالاة السياسية التي أصابت قطاعات واسعة من الشعب، بفعل التدهور الاقتصادي وغياب البدائل المقنعة.
غير أن هذا الصمت لا يعني رضاً، بل يعكس خوفاً، وربما اقتناعاً بأن المعركة السياسية تجري في فضاء مغلق لا يسمح بالمشاركة. ويخشى كثيرون من أن يؤدي هذا الشعور بالعجز إلى انفجار اجتماعي غير محسوب، في ظل ارتفاع الأسعار، وتقلص فرص العمل، وانهيار الخدمات الأساسية.
السيناريوهات المقبلة: إلى أين تتجه تونس؟
المشهد الراهن في تونس لا يحتمل إلا أحد خيارين:
1. مواصلة النهج السلطوي، مع المزيد من المحاكمات والتضييق على المعارضة، ما يعمّق عزلة النظام داخلياً وخارجياً، ويزيد من المخاطر الأمنية والاجتماعية.
2. إطلاق حوار وطني شامل، يعيد الاعتبار للمسار الديمقراطي ويؤسس لعقد اجتماعي جديد تشارك فيه كل القوى الحية في البلاد، بما فيها المعارضة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.
كل تأخير في تبنّي الخيار الثاني، يعني مزيداً من الاحتقان، ويفتح الباب أمام انزلاقات قد تكون كارثية، في بلد لا يملك هامشاً كبيراً من المناورة الاقتصادية أو الاجتماعية.
الديمقراطية التونسية في غرفة الإنعاش
قضية “التآمر على أمن الدولة” ليست مجرّد خلاف قضائي، بل مرآة عاكسة لأزمة عميقة في بنية الحكم والشرعية في تونس. إنها نقطة مفصلية قد تحدّد مستقبل الديمقراطية في البلاد، بعد أكثر من عقد على ثورة الحرية والكرامة. السؤال اليوم لم يعد: من يتآمر على الدولة؟ بل: من يحمي الدولة من أن تتآكل من داخلها؟
المدون : علاء الدين حميدي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.