الكورد في قلب مرحلة الحل
في استجابة مباشرة لدعوة زعيمه المعتقل عبد الله أوجلان، أعلن حزب العمال الكوردستاني عقد مؤتمر خاص لحل نفسه ونزع سلاحه، بحضور نخبة من كوادره وفي ظروف خاصة. ويُعد هذا الإعلان خطوة مفصلية ضمن مسار طويل من الصراع، ومحاولة جادة لتعزيز عملية السلام.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وفي أول تعليق رسمي على الخطوة، تجنّب ذكر الحزب باسمه، مكتفياً بوصفه بـ”المنظمة”، وترك المسار للمؤسسات الأمنية والاستخبارية لمتابعته. لكنه أشار إلى نقطتين لافتتين: دعوته أنصار الحزب حول العالم لدعم الجمهورية التركية بدلاً من معارضتها، وتقديره أن الصراع مع الحزب كلّف تركيا خسائر مادية تتجاوز تريليوني دولار خلال 42 عاماً من الحرب.
لكن إذا كانت خسائر الدولة التركية بهذا الحجم، فكم بلغت خسائر حزب العمال الكوردستاني؟ وكم خسر الشعب الكوردي من طاقات ومقدرات؟ الأهم، ما حجم الأضرار الإنسانية والاجتماعية والنفسية التي لحقت بالمجتمعين الكوردي والتركي، والتي لا يمكن تعويضها أو حتى تقديرها زمنياً؟
في العام 1999، وبعد اعتقال أوجلان، أعلن الحزب وقفاً لإطلاق النار، لكنه جاء في توقيت مرتبك وغير محسوب سياسياً وعسكرياً. بدلاً من استثماره، تعاملت الدولة التركية مع الخطوة من موقع المنتصر، وزادت من غطرستها، وأهدرت فرصة نادرة لوقف النزيف البشري والاقتصادي.
الفرصة الثانية تمثلت في عملية “الحل والانفتاح” بين عامي 2013 و2015. هذه المرحلة، التي بدأت عبر صناديق الاقتراع بعد عقود من الإنكار القومي واللغوي، بلغت ذروتها حين طلب حزب العدالة والتنمية من حزب الشعوب الديمقراطي الكوردي الانضمام للحكومة. لكن جبهة قنديل المتطرفة داخل الحزب أجهضت اللحظة بإعلان حرب الخنادق، لتفشل بذلك فرصة تاريخية جديدة على الحركة المدنية الكوردية في شمال كوردستان.
صحيح أن المناخ السياسي آنذاك لم يكن ناضجاً تماماً لاحتضان مسار سلمي شامل، لكن قرار الحزب حينها، رغم عدم حسمه قانونياً، أخّر عملية السلام لعقد كامل.
وإذا كانت الجبال والسلاح استراتيجية لمرحلة ما، فإن نزع السلاح وحل التنظيم قد يكون استراتيجية فعالة في عالم متغيّر، يُقدّم فرصاً مختلفة للنضال المدني والسياسي. التجربة تؤكد أن الكورد حققوا من المكاسب السياسية والمدنية في المدن أكثر مما حصدوه من النضال المسلح. ففي 2009، كان لهم 59 رئيس بلدية، وارتفع العدد إلى 102 بحلول 2019. وفي البرلمان التركي، ارتفعت مقاعد حزب الشعوب الديمقراطي من 29 مقعداً في 2015 إلى 67 في 2024.
المقارنة بين نمطي النضال تتضح بالأرقام: بين عامي 2015 و2023، قُتل أكثر من 6200 شخص في مواجهات مسلحة، مقابل نحو 200 فقط في احتجاجات شعبية. بالتوازي، شهدت تلك السنوات ازدهاراً ثقافياً ملحوظاً، من افتتاح دور نشر كوردية إلى تدريس اللغة الكوردية في المدارس والجامعات، وانتعاش الإعلام والفنون بلغتهم.
اليوم، وبعد أربعة عقود من الكفاح، تدخل القضية الكوردية في تركيا مرحلة جديدة. لم تعد المعادلة بسيطة: فحتى إن تمّ كبح الخسائر، لا يعني ذلك بالضرورة تحقيق مكاسب. فإن التلوث السياسي في “نهر المسألة الكوردية” قد طال حتى الأسماك الصالحة للسلام.
من جهة، يروّج البعض داخل الدولة العميقة لفكرة أن الحزب انهار تحت الضغط العسكري وحده. ومن جهة أخرى، يرى بعض المحللين الكورد أن الدولة اضطرت للتهدئة بفعل الضغوط الإقليمية والدولية. كلا الخطابين يتغاضى عن تعقيدات المشهد وحجم الضرر المتراكم.
الشرق الأوسط بأكمله، بما فيها الأجزاء الأربعة التي يعيش فيها الكورد، يخضع لتحولات هيكلية في الفكر والسياسة والاقتصاد، بما يتماشى مع معايير العصر الجديد: عصر الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، وإعادة تشكيل الدولة الحديثة. الكورد ليسوا وحدهم في هذا المسار، لكنهم اليوم، بوضوح، في قلب مرحلة الحل.
ترجمة: وكالة شفق نيوز
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.