الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (1)
طالما كتبتُ على مضض، وأحيانًا يخيل إليّ أن قطرات الحبر تنساب في شراييني كالسُّم الزعاف، أتجرعه رغم أنفي، ويق*ت*لني رويدًا رويدًا. وقد فكرتُ كثيرًا في الهروب من القرطاس والقلم، لكن الكتابة، كالقضاء والقدر، لا انفكاك عنها لمن خبرها وتجرّع غُصصها.
فالكتابة ليست هواية عابرة بالنسبة إليّ، بل قَدَرٌ مكتوب، ومسؤولية إنسانية، وأخلاقية، ووطنية سامية… ؛ فهي ليست حروفًا تُنقش على ورق فحسب، بل هي أمانة جسيمة، وتبعة ثقيلة، لا ينهض بها إلا أصحاب الضمائر الحيّة، وذوو البصائر الثاقبة.
الكتابة الحرة ليست ترفًا ولا شرفًا ولا تمرينًا بلاغيًا، بل نداء باطنيّ، وحِملٌ ثقيل، لا يقوى عليه إلا أولئك الذين جعلوا من ضمائرهم منابر، ومن عقولهم موازين للعدل، ومن أحبارهم دماءً تسيل لأجل الإنسان وكرامته.
إن الكاتب الحقيقي لا يُكتب بمداد الحبر، بل بوهج التجربة، ودم القلب، وجراح الوطن… ؛ ومن خلالها يُعرف الكاتب الحق من الدعيّ، وتُعرف رفعة الكاتب أو خِسّته، وتُميّز قوة قلمه من انكساره، وصدق يراعه من كذبه وتدليسه.
فيها يتبين علوّ همة الكاتب أو دناءة قصده، ويُقاس بها متانة سنده الفكري أو انهيار بنيانه الأدبي… ؛ فالكتّاب الكبار يحملون أقلامهم كأنها سيوفٌ في وجه الزيف والظلم والباطل، يسطرون بها القضايا المصيرية، وينيرون بها العتمات والظلمات التي تحيط بأممهم وشعوبهم واقوامهم … ؛ يطرحون الحلول، ويصفون العلاجات، كأنهم أطباءٌ لجراح المجتمع، وآماله المكبوتة، وعقده المستعصية.
هؤلاء لا يبددون مدادهم في اللهو والسّطحية والتفاهة، بل يكرّسونه لأهم القضايا الوطنية والإنسانية… ؛ يسبرون أغوار هموم الناس، ويسلّطون الضوء على تطلّعاتهم، ويجتهدون في تقديم رؤى خلاّقة لمعالجة مشكلاتهم المزمنة.
وفي زمنٍ تعصف به الرياح الطائفية والعنصرية والقومية والمناطقية والفئوية والحزبية، وتنهشه النزعات العشائرية والسياسية والدينية والاجتماعية والولاءات العابرة للحدود، لا يعود للكتابة معنى إن لم تكن جسرًا بين وجدان الكاتب وضمير شعبه.
فالكتابة الحرة ليست مهنة من أراد السلامة، بل اختبارٌ أخلاقيٌّ عسير، لا يجتازه إلا من نذر قلمه للحقيقة، ووجدانه للوطن.
نعم، الكتابة الحرة ليست مهنة الهاربين من الحياة، ولا هواية المتنطّعين على شواطئ الفكر؛ إنها نارٌ في الجوف، لا تنطفئ إلا بالحبر، وجراح لا تندمل إلا على الورق، وصراع داخلي متجدد بين ما نراه، وما ينبغي أن نراه، بين ما كنا نؤمن به، وما يجب أن نعيد النظر فيه.
فها أنا أكتب، لا لأنني أملك الحقيقة، بل لأنني أنهكني الصمت.
أكتب، لا لأنني أطمح إلى نجومية كاذبة أو علاقات نفعية زائفة، بل لأنني أخجل من نفسي إن مرّ يوم دون أن أضع إصبعي على جرحٍ عراقيٍّ ينزف، أو أضمّد ذاكرةً وطنيةً تئنّ من التشويه والتزييف، أو أزيح ركام الأكاذيب والافتراءات عن هويةٍ أريد لها أن تُبعث من رمادها، لا أن تُدفن فيه.
الكتابة الحرة مسؤولية عظيمة، وقبل ذلك هي محكمة ضمير، ومنبر صدق، وهي ـ في زمننا هذا ـ فعل مقاومة ونضال وجهاد … ؛ فالكاتب الحر ليس من ينسج العبارات ويردد الشعارات، بل من يوقظ العقول، ويشحذ الأذهان بالوعي، ويزعزع اليقينيات المتخشبة، ويغرس في وعينا المغيّب حبةَ شكٍّ تُثمر وعيًا حيًّا فاعلًا مثمرًا.
أكتب وفي قلبي غصة، وعلى لساني مرارة، وبين أصابعي قلقٌ يتأرجح بين الكتابة والصمت، بين قول الحقيقة أو الركون إلى سلامة الخرس.
لكن، هل من خلاصٍ إلا بالكتابة؟ وهل من تطهيرٍ إلا بالصدق؟ وهل من بعثٍ لوطنٍ ممزقٍ إلا من خلال عقولٍ لا تخاف، وقلوب لا تجامل، وألسنة لا تهادن؟
إن الكتابة الحرة ليست مهنة العابرين، بل هي قَدَر الذين أبصروا الحقيقة في ليل الخداع، وقرروا أن يكونوا منارةً في العتمة.
ومن هذا المنطلق أكتب: لا طمعًا في ثناء، ولا خشيةً من هجاء، بل بدافعٍ من ضميرٍ عراقيٍّ جريح، ومن عشقٍ قديمٍ لهذا الوطن الذي لا يملّ من الجراح، ولا يتعب من النهوض.
أنا أكتب لا لأنني بارعٌ في الحروف، بل لأنني موجوعٌ بالحقيقة، مثقلٌ بالذاكرة، محاصرٌ بوطن أسير .
أكتب لا عن ترفٍ ثقافيّ، أو موهبة مستعرضة، بل لأن الكتابة ـ كما ينبغي أن تكون ـ مسؤولية أخلاقية، ووظيفة وطنية، وصرخةٌ ضدّ الخراب والدمار ، وأداةُ استنهاضٍ لا تهادن.
ومن خلالها يُعرف معدن القلم، وتُقاس قامة الكاتب: هل هو حاملٌ للحقائق؟ أم متواطئٌ مع التزييف؟