القوانين الورقية تصارع القوانين الرقمية – سجاد خماس الساعدي
تأمل عالمًا أصبحت فيه حياتك كلّها معلّقة بخيط رقمي رفيع، لا يُرى، لكنه أقوى من السلاسل، كلمة مرور واحدة قد تفتح لك أبواب مصرفك، أو بريدك الإلكتروني، أو حتى أسرارك العائلية والوجدانية، وقد تكون ذات الكلمة سيفًا مسلّطًا على رقبتك إن سقطت في يد من لا يخاف الله ولا يؤمن بخصوية الإنسان. لقد أصبحت التكنولوجيا مثل الهواء، نتنفسه من غير أن نشعر، نعمل من خلالها، نحب ونتواصل ونحلم ونخزّن آمالنا وأحزاننا على ذاكرتها. وكل اختراع عظيم يجرّ معه تهديدًا عظيمًا، وكل نعمة رقمية تنطوي في أحشائها على نقمة إذا ما انفلتت من عقالها.
إن الهجمات الإلكترونية لم تعد خيالًا علميًا كما كانت في أفلام الأمس، بل صارت واقعًا يوميًا يهدّد الحكومات، ويبتزّ الأفراد، ويُسقط المؤسسات، وقد تكون ضحيتها صورة عائلية، أو حسابًا مصرفيًا، أو حتى سمعة وطن. ومع ذلك، يُطرح السؤال المؤلم: أين يقف القانون العراقي من هذا كله؟
للأسف، لا يزال العراق يفتقر إلى قانون نافذ موحّد يعالج الأمن السيبراني أو يجرّم الأفعال المعلوماتية بشكل واضح. وقد ظل مشروع “قانون الجرائم المعلوماتية” حبيس أروقة البرلمان لسنوات دون إقرار، مما يُبقي المحاكم الموقرة في مواجهة تحدٍ كبير، إذ تُضطر إلى تكييف الجرائم الإلكترونية ضمن أطر قانونية تقليدية لم تُصمَّم في الأصل لهذا النوع من الأفعال. فيتم اللجوء مثلًا إلى المادة (430) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المتعلقة بالتهديد، أو المادة (456) الخاصة بالنصب والاحتيال،
وتبقى القاعدة القانونية “لا ج#ريم*ة ولا عقوبة إلا بنص” – كما وردت في المادة (1) من ذات القانون – حاجزًا مهمًا يمنع معاقبة الجناة ما لم يُحدد الفعل بوضوح في نص قانوني، وهو ما يُسلّط الضوء على الحاجة الماسة إلى تحديث المنظومة التشريعية، لا من باب العقوبة فقط، بل من باب حماية الأمن الوطني والخصوصية العامة والخاصة.
كيف يمكن الحديث عن عدالة رقمية في وطن لا يملك قانونًا رقمياً؟ وكيف تُحمى البيانات والمعلومات والحريات، إن لم تُنظَّم بنصوص تواكب العصر وتراعي مستجداته؟
لقد قال الفيلسوف الإنجليزي جون لوك: “حيث لا قانون، لا حرية”. ومن هنا، فإن غياب تشريع منصف وواضح في ميدان الأمن السيبراني لا يُهدد فقط الأمان التقني، بل يُهدد الحريات أيضًا، لأنه يفتح الباب واسعًا للاجتهادات المتباينة والتفسيرات المتعددة، دون سياج قانوني دقيق يُعطي التقاضي أدوات واضحة وعادلة.
إن مشروع قانون الجرائم المعلوماتية، بصيغته المتداولة سابقًا، رغم احتوائه على بنود تمسّ الأمن العام، إلا أنه تعرّض لهجوم من قبل منظمات المجتمع المدني؛ لما يحويه من ألفاظ فضفاضة قد تُستخدم لتقييد حرية التعبير وفرض الرقابة على الفضاء الرقمي، دون ضمانات حقيقية للمحاكمة العادلة أو احترام الحياة الخاصة. ولا بدّ من التأكيد أن التشريع الناجح لا يُبنى على الخوف، بل على التوازن،
من هنا، فإن الحاجة ملحّة اليوم إلى تشريع عصري متوازن، يُحارب الجرائم المعلوماتية من دون أن يُنتج استبدادًا تشريعيًا، قانون يكتبه الفقهاء لا العسكر، ويُصاغ بروح الدستور لا بروح الرعب. قانونٌ يواكب الثورة الرقمية، ويؤمن بأن المواطن ليس مشروع متهم بل هو ركن الوطن وروحه.
وفي الختام، نقول كما قال الإمام علي (ع): “الناس أعداء ما جهلوا”. وقد آن الأوان أن يدرك العراق أن الأمن السيبراني ليس ملفًا تقنيًا فقط، بل هو قضية سيادية قانونية أخلاقية وطنية، وإن التراخي فيه ليس تأخرًا في التكنولوجيا فحسب، بل تفريط في كرامة الإنسان الرقمية، وفي هيبة الدولة القانونية.
محام وباحث قانوني
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.