مقالات عامة

الفخار والخزف في العراق القديم والحديث

الكاتب: نيران يارث يونان
الفخار والخزف في العراق القديم والحديث
تعتبر صناعة الفخار والخزف من أقدم الفنون الأنسانية التي ورثوها الحضارات الحاضرة من أسلافهم . صنعت الأواني في بعض الحضارت من الحجر المنحوت مثل الألبستر والكرانيت والبازلت والحجر الجيري ، الى جانب الفخار الذي كان معروفاً في كل بقاع العالم . فاليوم يكتشفون أحفاد تلك الحضارت قطعاً من أعمال أجدادهم في المقابر والبنايات والمعابد ، والتي تعتبر من التحف الفنية الفاخرة والمتمثلة بالتماثيل الخزفية الجنائزية والأواني المستخدمة في المطبخ والخواتم وغيرها  في مصر وجدت بلاطات مزججة على الجدران والأبواب ، كأبواب هرم سقارة الذي بني 2800 ق.م سنة
أما في بلاد ما بين النهرين الذي هو مهد الحضارت والفنون . ظهر فن الخزف والفخار في عصور ما قبل التاريخ . زينت جدران المعابد بأوتاد صغيرة من الفخار المزجج الذي أستخدم في تغليف جدران المقابر أيضاً والقصور في مدينة الوركاء الواقعة في جنوب العراق في محافظة الناصرية . وهي من المدن التاريخية العريقة لما لها من أرث عظيم . أبتدأت هذه المدينة بالفن منذ 4500 ق.م أي قبل التاريخ ومروراً بعصر فجر السلالات كالعصر الأكدي والسومري والبابلي القديم والحديث . كما أكتشف في هذه المدينة الكتابة قبل 3500 سنة ق.م .
كانت دراسة الدكتور العراقي بهنام أبو الصوف الرائدة في الخزف العراقي القديم الذي أختاره موضوعاً لدراسته وأعتبره المادة الأساسية والحيوية لتقدير عمر الموقع الأثري ، أو البناء الاثاري . أو ربما العصر بأكمله . فدراسته لفخار الوركاء تعد المدخل النظري للتطبيقات العملية ولدراسات النظرية اللاحقة ، فتوضح له بأن فخار الوركاء بأنواعها ( الحمراء / الرمادية / السوداء ) كلها أنواع لصناعة واحدة تعود الى أواخر عصر العبيد . كما أن بعضها قد عرفته تقاليد صناعات الفخار العريقة في العراق منذ الألف السادس ، كما هو معروف من مواقع ( حسونة ، نينوى ، تل الصوان ) كل هذه الأنواع عملت محلياً من طينة محلية وأحرقت بكور فخار محلي .
أنتشر الفخار بشكل كبير في كل أرض الرافدين فعبرعن تاريخ ومستوى تلك الحضارت ، فوجد هذا الفن في مداخل شارع المواكب في بابل العظيمة ، وفي جداريات بارزة على البنايات المطلة على هذا الشارع . وكذلك على شكل أعمال فخارية جميلة ومتقنة تمثل الأواني الفخارية المستخدمة للزينة والأعمال المنزلية مزينة بالزخارف نقشت على سطح الأواني .
في القرن الحادي عشر الميلادي كانت أعمال الخزف في العراق متأثرة في الطابع الساساني ، فكانت الزخارف المستخدمة تشابه مثيلاتها في الشام ومصر . كانت الزخارف تخلو من رسوم الأشخاص ، وكان الفخار غير لامع يزخرف بالحز وبالدهان وبأختام خاصة أو بضغط عجينة من الطَّفل على سطح الأناء الفخاري لتزينه ، وما زالت تستعمل هذه الزخارف على الأواني الفخارية حتى اليوم . بدأ الخزافون في أعطاء سطح الفخار طبقة لامعة وذلك بمنحه طلاء أبيض يحتوي مادة قصديرية .
حديثاُ والى ماقبل أعوام قلائل لم يكن ما يطلق عليه تشكيلياً أسم الخزف الفني عدا وجود معامل الفخار الشعبي البسيط والذي استمرفي تكرار نفسه في المشربيات وجرار كبيرة وأواني للأستعمال البيتي ولتبريد الماء ، كذلك معامل الخزف في كربلاء والكاظمية وغيرها هذا ما قاله الفنان جواد العبيدي .
أما فن الفخار العراقي الحديث الذي أبتدأ قبل منتصف القرن الماضي وبعد تأسيس معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1935 والذي بدأ فيه تدريس الفنون التشكيلية الحديثة . بعد عام 1939 كان أول من درست فن الفخار في العراق هي زوجة الآثاري ( سيتن لويد ) وهي في الأصل نحاتة ، درّست النحت في 1948 – 1949 وبعدها جاء الخزاف البريطاني ( أيان أولد ) الذي طُلب منه تأسيس فرع الخزف في المعهد فأسسه عام 1955 ودرّس فن الخزف عام 1955 – 1956 . ولدى مغادرته العراق الى لندن ، التقى بزميل دراسته في ( المدرسة المركزية للفن والتصميم ) الخزاف القبرصي المعروف عراقياً ( فالانتينوس خرالامبوس ) فعرض عليه وظيفة شاغرة في معهد الفنون في بغداد . أقتنع بالعرض وأستقل أول طائرة قادمة الى بغداد لكي يصلها في شهر تموز الحار . بقي مدرساً للخزف في معهد الفنون الجميلة الى عام 1968 وبعدها أنتقل الى كلية الفنون الجميلة . أحب فالنتينوس العراق كثيراُ فتعلم لغته وأنغمر في تدريس أجيال من الطلاب ولم يترك بغداد الى فترة الثمانينات بسبب الأوضاع السياسة في البلاد . له طلاب كثيرون ومنهم الخزاف العراقي الأول سعد شاكر الذي تعرف على عائلة أستاذه في قبرص والمنحدرة من أجيال متعاقبة من الخزافين المحترفين هناك . أنزوى فالانتينوس في مشغله على قمة جبل وعلى مسافة من مدينته بعد موت والديه وأخته لكي يعيش منعزلاً كراهب بعيد عن ضوضاء المدينة .
لم يكن في معهد الفنون الجميلة فرناً للسيراميك . وأول فرن بني بالقرب من أستوديو الرسم الا أنه لم يعمل كما ينبغي ، فاستبدل بفرناَ كهربائياً لمدة مؤقتة ، ثم بفرناً محلياً ( كورة ) يعمل بالنفط الأسود مع الماء ليصل الى الحرارة المطلوبة في الخزف والتزجيج وهي الف درجة مئوية . عمل هذا الفرن بشكل جيد حتى أستوردت الدولة في السبعينات عدداً من الأفران الكهربائية الحديثة . أما بالنسبة الى الطين ففي العراق مقالع كثيرة منها في النجف والبعقوبة وغيرها .
كان لفالانتينوس أسلوباً فنياً معاصراً تبلورت منه الهوية الفنية العراقية الحديثة لفن الفخار والسيراميك فظهر هذا الطابع في أعمال تلاميذه من الفنانين كسعد شاكر الذي كان يتمتع بذكاء ودقة في الأنجاز واستطاع أن يضع لطلابه أساسات الأتقان والمثابرة لوضع الخزف العراقي بمصاف الفنون الأخرى . عبلة العزاوي التي دَرّست الخزف في بغداد وباريس ، كانت أعمالها تميل الى الحداثة . ونهى الراضي وسهام السعودي وطارق أبراهيم وشنيار عبدالله الذي أمتاز بأسلوب ( الراكوالياباني القديم ) الذي يعتمد على الحرق المباشر للخزف مع أختزال الأوكسجين في الفرن . وماهر السامرائي ومحمد عريبي وغيرهم اللذين يذّكروننا بالتقاليد الفنية الحديثة والرصينة والتي تَعبر عن أزدهار حركة فن الخزف في العراق . والى جانب القواعد والأسس الموجودة في فن الخزف تداخل أيضاً هذا الفن مع النحت منذ القدم ، وحديثاً أستخدم في العراق هذا النوع المتزاوج بين الفنَين لعطاء الخزف بعداً تعبيرياً أعمق وأكثر جمالاً وهيبة عندما يعمل منه أعمالًا كبير وشاهقة . أبدع النحات العراقي أسماعيل فتاح الترك في هذا المجال .
عبَرَ الفنان سعد شاكر عن مسار فن الخزف في العراق بأنه أتخذ خطاً بيانياً في التقدم والتطور خلال فترة قصيرة من الزمن .. وغدت هذه الحركة قابليات شابة وطموحة متميزة استطاعت أن تغذيها بحيوية وتحفز .. فخرج الخزف من حرفية الموضوع الى حقول الفنون التشكيلية المثابرة .. ومنحت هذه الطاقات الشابة للخزف الدفء والحرارة البشرية المتمازجة مع روح العصر لتتحد معاً باحثة في الشكل والمضمون الجديدين .
 

بقلم / الفنانة التشكيلية  
نيران يارث يونان
مدرسة  ورئيسة قسم الفخار والسيراميك في معهد الفنون الجميلة في بغداد سابقاً
ونزرد – كندا
www.mangish.com
نشر المقال في جريدة أكد الكندية يوم 28-6-2012..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!