العقيدة الأدارية في العراق بين زمن التأسيس وزمن المحاصصة –
تميزت الدولة العراقية قبل عام 2003 بوجود منظومة إدارية قوية ومتينة، قامت على أساس التدرج الوظيفي والانضباط الصارم في معايير التعيين والتقويم. لقد كان الموظف في تلك المرحلة يتدرج في السلم الإداري بناءً على الكفاءة، الأقدمية، والالتزام الوظيفي، وفق ضوابط راسخة لا تسمح بتجاوز الاستحقاقات القانونية أو التلاعب بمواقع النفوذ. النزاهة، الدقة في العمل، والانضباط في الحضور والإنجاز لم تكن شعارات بل ممارسات يومية رسخت لدى الموظف ما يمكن تسميته بـ”العقيدة الإدارية” – وهي منظومة قيم ومبادئ مهنية مترسخة في العقل والسلوك الوظيفي يصعب التخلي عنها أو تجاوزها.
إن هذه العقيدة لم تكن وليدة اللحظة، بل تأسست نتيجة تراكم خبرات عقود من العمل المؤسسي، مما جعل الجهاز الإداري آنذاك يتمتع بدرجة عالية من الفاعلية والكفاءة، وشكّل العمود الفقري للدولة بمختلف مفاصلها.
ولكن بعد عام 2003، تعرضت هذه المنظومة إلى هزّة عميقة تمثلت في التحول الجذري الذي أصاب بنية الدولة العراقية. حيث بُني النظام الإداري الجديد على أسس المحاصصة السياسية والقومية والطائفية، فغابت المعايير المهنية وتراجع مبدأ الاستحقاق لصالح الولاءات والانتماءات. وأدى ذلك إلى تفشي ظواهر دخيلة على النظام الإداري مثل المحسوبية والفساد الإداري، إلى جانب ازدياد عدد الشهادات الجامعية غير الرصينة، ما أدى إلى إرباك واضح في منظومة التعليم ومن ثم في الكوادر الإدارية نفسها.
إن الموظف الذي تربى على نظام صارم ومنضبط يجد نفسه اليوم في بيئة تفتقر إلى المعايير التي شكلت هويته المهنية. وهذا يفسر الصعوبة التي تواجهها الكثير من الكفاءات الإدارية التي عملت قبل 2003 في التكيف مع النظام الحالي. فقد أُقصي عدد كبير منهم من المشاركة الفاعلة، إما نتيجة لتهميشهم أو إحباطهم من الواقع الجديد، وإن عاد بعضهم إلى العمل، فغالباً ما تكون العودة من أجل تأمين لقمة العيش لا بدافع الح*ما*س الوظيفي أو الإيمان بالمؤسسة.
وبهذا يمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسية لفشل العملية السياسية في العراق هو التهميش الذي طال الكوادر الإدارية الكفوءة التي كانت تشكل ركيزة الدولة. فحين تُقصى الكفاءات وتُستبدل بالمحسوبين، وحين يُغيب الضبط الوظيفي لصالح الولاءات، تنهار منظومة الإدارة وتفقد الدولة عمقها المؤسساتي.
الخاتمة
إن العقيدة الإدارية لا يمكن تصنيعها سريعاً، ولا تُفرض بقرارات فوقية، بل تُبنى بالتجربة والانضباط والمحاسبة، وتنهار عندما يُستبدل القانون بالولاء، والمهنية بالقرابة، والكفاءة بالمجاملة. ولذلك، فإن أي مشروع إصلاح إداري حقيقي في العراق يجب أن يبدأ بإعادة الاعتبار لتلك العقيدة التي لا تزال حيّة في ذاكرة موظفي الأمس، علّها تكون منطلقاً لبناء مؤسسات المستقبل.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.