مقالات دينية

الحياة المكرسة والمتطلبات النبوية فيها

الكاتب: المطران سعد سيروب
الحياة المكرسة

المطران سعد سيروب

اولا: الحياة المكرّسة ومجيء المسيح

ترتبط الحياة المكرّسة ارتباطاً وثيقاً مع حقيقة مجيء الرب يسوع المسيح في تمام الازمنة، وهذا ما يُسمى بالبعد الاواخري للحياة المسيحية. ويبدو ليّ أن هذا الأفق يغيب يوم بعد يوم عن التفكير الكنسي المؤسسي وعن تفكير العديد من المكرسين أيضاً.
كتب اللاهوتي الكاثوليكي الألماني J.B. Metz في كتابه Zeit der Orden محذراً المكرّسين من أن حياتهم المكرّسة لا يمكن فصلها عن الانتظار الاسكاتولوجي، أي مجيء الرب يسوع. فدعوة المسيح للمؤمن المسيحي والمكرّس “اتبعني” لا يمكن فصلها عن وعده الأخير “أني، آت سريعاً”. إن راديكالية حياة المكرّس متضمنة في حالة التلمذة (اتباع المسيح) التي تترافق مع انتظار الرب يسوع الذي سيأتي نحوه.
الحياة المكرّسة الأصيلة إذن، هي حياة متجهة بكليتها نحو غاية الوجود الأرضي وكماله في المسيح، ولهذا تعيش تستبق حالة من التجدّد والتحوّل الذي أراده الله لعالمنا. المكرّس يعيش نوع من الجدلية الحياتية بين التاريخ وتمامه، جدليّة تضيف لتاريخنا اللحظي وتبدّله الى زمن مملوء “بالمعنى”. في نص للرسول بولس في الرسالة إلى أهل تسالونيقي يقول أن مجيء الرب يسوع المباغت بطبيعته يقضّ مضاجع الأحياء والأموات (1 تسا 4/ 15: 18). إن مجيء الرب يجعل من حياة المكرّس انتظاراً مستمراً ومنتبهاً الى علامات الأزمنة. ينبغي على المكرّس أن يتذكر دائماً هذه الغاية الاخيرة لتكون حياته أصيلة وحقّة ورسالته فعّالة.
ماذا يعني هذا:
1. هذا يعني أن نعيش نظام جديد من العلاقة مع العالم والاشياء وحتى مع السلطة الكنسية والخدم الطقسية. فهذه كلّها ضرورات انتقالية ومؤقتة في خدمة غاية الحياة المسيحية الأخيرة، أي المحبة، المبدأ الوحيد الباقي (1كور 13، 13). 2. هذا يعني أن نعيش ملئاً لم يكتمل بعد. يعني أن نعيش برجاء وأن لا نعيش بما نراه: “لأننا نهتدي بايماننا لا بما نراه” (2 كور5/7)، يعني أن ندرك حادثية حياتنا، وهشاشة مؤسساتنا، وسرعة عطب شهادتنا؛ ويجب أن يحدث هذا في ملئ ازدهارنا، الذي سيسقط عاجلاً أم عاجلاً. 3. أن هذا يعني أن يقوم المكرّس باعادة تقييم مستمرة لجماعته وخدمته ومقارنته باستمرار مع روح الأنجيل والمسيح. فالحياة المؤسسية بطبيعتها ضعيفة وانتقالية، ولهذا فهي تفترض توجّهاً دائم نحو الجوهري والاساسي، المسيح.
وليتمكن المكرّسون من الإجابة عن سؤال الناس لهم الناس: “يا حارس ماذا بقي من الليل؟” (اش21/11)، ينبغي أن يرى الناس فيهم “سهارى”، أي حاملين “لكلمة الله”، والا سيتجهون إلى أخرين…
يجب أن يعيش المكرّس اختلافاً حقيقاً مع العالم، فليس المستقبل بالنسبة له فراغاً بل مملوءاً من الصلاة: “تعال أيها الرب يسوع المسيح” (رؤ 22/20). المكرس الذي يبحث عن هويته في عصرنا عليه أن يعرف أن الهوية الأصيلة تبنى انطلاقاً من هذا الرجاء الحي القائم على انتظار الرب يسوع المسيح والعيش كما لو أن تفاصيل حياته الارضية هنا تعبر عن حقيقية حياة المسيح الممجد.

ثانيا: متطلبات نبوية في الحياة المكرّسة

 
أذكر أربعة متطلبات، تبدو لي ضرورية للحياة المكرّسة التي تعطي مكاناً للنبوءة في حياتها. إنها متطلبات تخصّ الكنيسة جمعاء ولكنها بنوع خاص تمس حياة المكرّس، الذي قرّر أن يعيش حياة مسيحية متجذّرة في الانجيل ومشوراته.

حياة التوبة تُحرك المكرّس رغبة عميقة وحاجة مستمرة الى التوبة. وهذا يجب أن يقوم على المستوى الروحي والنفسي العميق. فالليبيد الثلاثي – الحب والتملك والسيطرة – الضرورية لبناء أي شخص يجب أن تتطهر وتتغير إلى ليبيد ثلاثي جديد – عفّة وفقر وطاعة. فكما قاوم المسيح هذه التجارب الثلاث (متى 4/1-11؛ لوقا 4/1-13) كذلك يعمل المكرّس في هذه التجارب. فحيثما كان الصراع كانت التوبة. علينا أن نتساءل: هل تشهد حياتنا على توبتنا؟ هل تشهد عن طريق آخر؟ هذا السؤال مهم: هل يرى الناس فينا ما هو مختلف وما يدّل على تغيير الحياة، لأننا إن عشنا مثلهم فلماذا يجب عليهم أن يتوبوا!

شهود الله الحي فنحن نحتاج إلى الشهادة لحضور الله الشخصي والحي فينا. إننا بحاجة إلى اختراع لغة جيدة مُفارقة تكون قادرة على الفصل بين أشكال الالوهة المعاصرة “السياسة – الجمالية” وبين اله إبراهيم واسحق ويعقوب ويسوع المسيح. فنحن بحاجة إلى الشهادة لإله ليس للجميع، أي بمعنى لا يوافق الجميع، بل لأله حي لا يمكن إرضائه بالأخلاق الحميدة فقط، بل بالحب اللامشروط والمجاني. إني أتحدث عن التوبة كحركة وجودية تضع المسيح في مركز كل شيء نقوم به ونحبه. ينبغي على كل مكرس أن يكون شاهداً للإله الحي الذي يعرفه ويفتقده باستمرار، كما لو انه يرى ما لا يرى. يجعلنا الإيمان الناضج والقوي نرى ما هو وراء حدود حواسنا وعقلنا، يسمح لنا بان نرى الحقائق غير المنظورة (2كور4/18)، الحقائق التي تشرح كلّ الحقائق الأخرى: الله.

أولوية الإيمان الحياة المكرّسة حياة تعيش بالإيمان: “البار يحيا بالإيمان” (روم 1/17). أولية الإيمان تجعلنا نعرف أن نتائج التبشير لا تعتمد علينا، بل على الرب يسوع المسيح (2 تسا 3/1). فالتبشير لا يعني الرسالة النافعة للعالم ولا يعني فرض حضور مهين للآخرين ولا ضياء يعمي عيونهم بل “بشارة المسيح يسوع رجاؤنا” (كول 1/27-28)، مشهوداً لها بسيرة جميلة وحسنة (1بط 2/12). إن التجربة الخطيرة التي تواجه الحياة المكرّسة في يومنا هذا تكمن في استبدال بشارة المسيح القائم إلى عمل خيري والى حرب في سبيل حقوق الإنسان أو جمعية للصداقة والتضامن. خدمات وخدم لا يمكن أن ننساها أو نتجاهلها، لان المكرس يعيش في التاريخ بين الأخوة ولا يمكنه أن يبقى متفرجاً على الحالة التي يعيشها الأخ وهو يرى الآمهم ومعاناتهم، ولكنه لا يمكن أن ينسينا خصوصية حياتنا التي تكمن في إيماننا بالرب يسوع المسيح: “الإيمان العامل بالمحبة” (غلا5/6)، الإيمان هو ذاته العمل الأعظم. لقد سأل الناس يسوع: “كيف نعمل أعمال الله؟” فأجابهم: “أن تؤمنوا بمن أرسله” (يو6/28).

كلمة الصليب الحياة المكرّسة يجب أن تترك التملك (فل2/6)، لتنزل إلى الأرض حيث الفقراء والتخلي والصليب. أن تخرج خارج الحقل لكي تلتقي المسيح وتتقاسم معه المصير (عب13/13). إننا لا نملك مدينتنا المستقرة هنا على الأرض، بل نبحث عن المدينة المستقبلية (قابل: عب13/14). يقول يسوع: لا يسكن الانبياء قصور الملوك (قابل: لو11/8). الصليب هو العلامة التي تحمل التناقض الكلي في وسط عالمنا وتضعنا في حركة تضامن جادة ومسؤولة مع كل البشر منتظرين تحقق ملكوت الله وخلاص كل انسان (1 تم2/4). أترككم مع هذه الكلمات لايلاريوس البويتيري:
((أمامنا مضطهد كبير، عدو يريد تدميرنا… فهو لا يجلد ظهورنا، بل يدغدغ بطوننا، لا يلغي الأشياء ويعطينا الحياة، بل يغنينا ليعطينا الموت، فهو لا يضعنا في السجن مانحاً ايانا الحرية، بل يعظمنا في قصورنا دافعاً ايانا نحو العبودية، فهو لا يقيد أوسطنا بسلاسل بل يريد تملك قلوبنا، فهو لا يقطع روؤسنا بالسيف، بل يق*ت*ل نفوسنا بالمال، السلطة، النجاح، والمقاعد الأولى)).

..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!