الجيش البريطاني “استراتيجية جديدة لمواجهة التهديدات
اللواء الركن ضرغام زهير الخفاجي
كاتب وباحث في قضايا الأمن الإقليمي
خبير في شؤون الدفاع والتدريب والعلاقات الدولية
المقدمة
في خضم التحديات الجيوسياسية المتزايدة والتغيرات في طبيعة الحروب الحديثة أعلنت بريطانيا عن مراجعة شاملة لاستراتيجيتها الدفاعية بهدف ترميم جاهزيتها للحرب وتعزيز قدراتها الصناعية والعسكرية. جاء ذلك في وقت يتصاعد فيه التوتر بين روسيا والغرب وسط مطالبات أميركية وأوروبية متزايدة بزيادة الإنفاق الدفاعي وتحمّل أعباء الأمن الجماعي.
حيث أكد رئيس وزراء بريطانيا ستارمر وقادة الجيش على ظرورة أستعداد الجيش البريطاني للحرب.
أولاً: دوافع المراجعة الدفاعية البريطانية
١. التهديدات المتصاعدة
روسيا: يُنظر إلى روسيا بوصفها “خطرًا فوريًا وداهمًا” بعد غزو أوكرانيا عام 2022 إذ تستمر في زعزعة الأمن الأوروبي عبر الحرب التقليدية والهجمات السيبرانية اليومية.
الصين: تُعتبر الصين “تحديًا معقدًا ومتطورًا” مع تصاعد قدراتها التكنولوجية وامتداد نفوذها في المجالات الصناعية والعسكرية.
هجمات سيبرانية جديدة: يبرز الأمن السيبراني كجبهة قتال متقدمة مع استهداف متزايد للبنى التحتية الحيوية البريطانية.
مخاطر نووية وتوترات عالمية: تصاعد التهديدات النووية على خلفية سباق التسلّح العالمي مع ازدياد القلق من تحالفات جديدة (مثل تعاون روسيا مع إيران وكوريا الشمالية).
٢. ضغوط الحلفاء وسباق التسلح
ضغوط أميركية: عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وموقفه المعروف بشأن تقليص الالتزامات العسكرية الأميركية في أوروبا دفع لندن إلى تحمّل مسؤولية أكبر.
سباق التسلّح التكنولوجي: الطائرات المسيّرة، الذكاء الاصطناعي، والأسلحة الفرط صوتية أصبحت عوامل محورية في تحديث الدفاعات.
٣.فجوة في الجاهزية القتالية
تراجُع الإنفاق العسكري البريطاني سابقًا أدى إلى فجوة في الجاهزية القتالية كشفها صراحةً الصراع الأوكراني. فقد حذّر خبراء عسكريون من اعتماد بريطانيا المفرط على سلاسل التوريد العالمية ما يحدّ من قدرتها على خوض حرب طويلة الوتيرة دون دعم خارجي كبير.
ثانيًا: بنود الاستراتيجية الجديدة
١. الاستثمار في الصناعات الدفاعية
استثمارات كبرى: أعلنت وزارة الدفاع استثمار 1.5 مليار جنيه إسترليني (نحو ملياري دولار) لبناء 6 مصانع جديدة للأسلحة والذخائر إضافةً إلى شراء 7000 قطعة سلاح بريطانية الصنع.
تعزيز الذخائر: رفع ميزانية الذخائر إلى 6 مليارات جنيه إسترليني، مع إنشاء قدرات إنتاجية نشطة “على الدوام” تتيح زيادة المخزونات عند الحاجة.
رؤوس نووية: استثمار 15 مليار جنيه إسترليني في برنامج الرؤوس الحربية النووية.
٢. خطط شراء الأسلحة الحديثة
مقاتلات أميركية: تدرس بريطانيا شراء مقاتلات F-35A Lightning القادرة على إطلاق أسلحة نووية تكتيكية في خطوة لزيادة الردع النووي.
12 غواصة نووية هجومية جديدة: ضمن تحالف “أوكوس” مع الولايات المتحدة وأستراليا ستبني بريطانيا 12 غواصة هجومية متطورة.
٣. تحديث القدرات القتالية
قيادة إلكترونية: استثمار مليار جنيه إسترليني لإنشاء قيادة إلكترونية متخصصة لتوجيه المعارك وتعزيز الأمن السيبراني.
التكامل القتالي: أكّد ستارمر أن “إعادة هيكلة الدفاع تعني جمع كل القدرات من المسيّرات والمدفعية إلى الذكاء الاصطناعي والحدس البشري في آلة قتالية متكاملة”.
ثالثًا: الأهداف الاستراتيجية وأبعاد الردع
١. نموذج للقوة والأمن
يرى رئيس الوزراء كير ستارمر أن المراجعة الدفاعية الجديدة ستكون بمثابة “نموذج للقوة والأمن لعقود مقبلة” بما يعكس تحوّلًا جذريًا في التفكير الدفاعي البريطاني.
٢. تعزيز الردع الذاتي
أصبحت بريطانيا – بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي – أكثر تصميمًا على تأكيد استقلاليتها العسكرية وتطوير مقوّمات ردع ذاتي مستدامة لا سيما في مواجهة الشكوك الأوروبية حول الالتزام الأميركي طويل المدى.
٣. دمج الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا
يشكّل الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة عماد استراتيجية الدفاع الحديثة في ظل إدراك لندن أن النزاعات لم تعد محصورة بالجغرافيا التقليدية بل تمتد إلى الفضاء السيبراني والصناعي واللوجستي.
رابعًا: التحديات المحتملة
رغم الزخم الاستثماري والدعم السياسي تواجه الاستراتيجية البريطانية تحديات عدة:
توازن بين الإنفاق العسكري والموارد الاقتصادية: إعادة هيكلة الدفاع قد تصطدم بقيود اقتصادية خاصةً مع الضغوط التضخمية والإنفاق الاجتماعي.
استدامة سلاسل الإمداد: ضرورة بناء قاعدة صناعية دفاعية قادرة على تلبية الحاجات في زمن الأزمات.
التكامل مع الحلفاء: نجاح هذه الاستراتيجية يتطلب تنسيقًا وثيقًا مع الناتو والولايات المتحدة لتجنّب الازدواجية وتعزيز الردع الجماعي.
الاستنتاجات
١.الدوافع الأساسية للمراجعة الدفاعية البريطانية:
مواجهة التهديدات الروسية والصينية واحتواء الهجمات السيبرانية والنووية المتزايدة.
استجابة لضغوط الحلفاء (خصوصًا الولايات المتحدة) في ضوء احتمالات تقليص الالتزامات الأميركية.
٢.ركائز الاستراتيجية الدفاعية الجديدة:
استثمار كبير في الصناعات الدفاعية المحلية لزيادة القدرة على الإنتاج الذاتي (6 مصانع أسلحة و7000 قطعة سلاح جديدة).
رفع مخزون الذخائر وضمان استدامة سلاسل الإمداد الدفاعية.
توسيع الردع النووي (برنامج رؤوس نووية واستكشاف شراء مقاتلات قادرة على إطلاق أسلحة نووية).
تطوير البنية التحتية البحرية (بناء 12 غواصة هجومية جديدة).
تعزيز الأمن السيبراني بقيادة إلكترونية مستقلة.
٣.الأهداف الاستراتيجية:
إعادة تأكيد مكانة بريطانيا كـ”نموذج للقوة والأمن” لعقود قادمة.
بناء مقومات ردع ذاتي مستدام ومستقل بعد بريكست.
دمج الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا في جميع قطاعات الدفاع.
٤.التحديات التي تواجه الاستراتيجية:
صعوبة التوفيق بين الإنفاق العسكري والضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
بناء قاعدة صناعية دفاعية مرنة لتلبية متطلبات الأزمات.
الحاجة للتنسيق والتكامل مع الحلفاء (الناتو والولايات المتحدة) لتجنّب الازدواجية وضمان الردع الجماعي.
الخاتمة
جاءت المراجعة الدفاعية البريطانية الجديدة كاستجابة حاسمة لمشهد عالمي متغير حيث تتشابك تهديدات تقليدية (مثل الغزو الروسي لأوكرانيا) مع تحديات رقمية وصناعية غير مسبوقة.
تركّز هذه الاستراتيجية على بناء قدرات إنتاجية وطنية وتطوير التكنولوجيا الدفاعية وتعزيز الردع النووي والتقليدي بما يتيح للندن تأمين أمنها القومي وإعادة تأكيد دورها كقوة عسكرية فاعلة في مرحلة ما بعد بريكست.
ومع ذلك يبقى نجاح هذا التحوّل رهينًا بقدرة الحكومة على تحقيق التوازن بين الحاجات العملياتية والموارد الاقتصادية والتنسيق مع الحلفاء في إطار منظومة الأمن الجماعي الغربي.
المراجعة الدفاعية البريطانية تمثل تحولًا استراتيجيًا يدمج القدرات التقليدية والرقمية لمواجهة التهديدات المتصاعدة.
نجاح هذه المراجعة يعتمد على التوازن بين متطلبات الدفاع والاقتصاد إضافةً إلى التعاون الوثيق مع الحلفاء الغربيين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.