الحوار الهاديء

الإلحاد في زمن العولمة 1

الكاتب: لويس اقليمس
الإلحاد في زمن العولمة
الجزء الأول-
لويس إقليمس
ليس من السهل على كائن عاقل أن ينكر وجود قوة خافية أو طاقة مستترة تقف وراء عظمة خلق هذا الكون وتسييره وإدارته، إن لمْ تكن شكلاً من قوة جبّارة تعود لكائن جبّار وحكيمٍ يجيد قيادة دفته. كما ليس من المنطق على مخلوقٍ مقهورٍ قابل الموت والفساد أن يعتقد بنكران وجود الله بالسهولة التي يبديها أصحاب نظريات الإلحاد، قديمًا وحديثًا. فالإنسان، ككائن بشري مخلوقٍ على صورة الله ومثاله، له من القدرة والعقل والإرادة أن يكون ما هو عليه من طاقة تفكيرية وعقلانية، تُغلق أمامَه بابَ الّلاأدرية التي ذهب إليها الكثيرون بعد الثورة الفلسفية في القرن التاسع عشر وما بعده، وإليها يوجّه المحدثون الّلاأدريون تركيزَهم اليوم. قد أضاع هؤلاء الطريقين. فهمْ لا يجيدون الحكم بوجود هذا الإله الذي بشّر به الرسل والأنبياء، الذي وصفه الرسول بولس بـ “الإله المجهول” عندما توجّه إلى الأمم الوثنية لتبشيرهم بالمسيحية.
يقف “الّلادينيون” في طوابير اللامبالاة التي تسود العالم الغربيّ في هذه الأيام. وعندما نبحث عن السبب،نكتشف أنّ المادة هي في الأساس السبب المباشر في مثل هذا التوجّه. فدساتير الغرب وقوانينُه تفرض ضريبة على الانتماء للدين. وبذلك، مَن لا دينَ له رسميًا، لا يخضع لهذه الضريبة. هذا إلى جانب أسبابٍ أخرى بطبيعة الحال، منها اللاّمبالاة الفردية والتهرّب مِن كلّ محدّدات الشريعة الأخلاقية التي تنهى عن المنكرات وارتكاب الأخطاء الاجتماعية والأخلاقية والدينية “الخطايا”. لذا يسلك هذا النمط من الأشخاص هذه الطريق السهلة في الحياة دون الالتزام بمثل هذه المحدِّدات التي تفرضها وينصح بها الدّين المسيحي بخاصّة.
من وجهة نظر الديانات الكتابية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، يُعتبر ملحدًا كلّ مَن أنكر وجود الله خالق الكون، أرضًا وسماءً وبشرًا. فما عدا أتباع هذه الديانات الثلاث، يكون غيرُها خارجَها في عداد الملحدين أو ناكري وجود الخالق، كما في عدد من الديانات القديمة التي ما تزال قائمة. أمّا أصحاب الفلسفات الإلحادية واللاأدرية التي إنتشرت مع مطلع القرن التاسع عشر بصورة خاصة، فهؤلاء، إنطلقوا مِن مفهومٍ ماديّ ومعرفيّ بحت في إثبات عدم وجود الله أو الشكّ في وجوده. واليوم، بعد إنحسار المدّ الشيوعيّ وأفول نجمه، تكاد فلسفة الّلاأدرية، هي المستحكمة والمستقوية على الفكر الفلسفي المادّي الجديد، بعد أن إتضحت معالمُها وتطوّرت إلى تحليل فلسفيّ أكثر عمقًا بتوجهها نحو التفسير العلمي للخلق والكون والأداء. فهؤلاء، إذ يعتمدون على قصور العقل في إثبات وجود الخالق، ومن ثمَّ التشكيك بقدرة الأخير على إثبات هذا الوجود، يركزون جلَّ جهودهم وحياَتِهم على ما هو ملموس في الإثبات العلمي في المختبرات ومراكز الأبحاث التي يسوّقون منها هذه الفلسفة “الإلحادية” المخفّفة الجديدة المتطورة! فهمْ أناسٌ يتبعون تيارًا لا دينيًا في حياتهم الفكرية والاجتماعية، بحيث يعسر عليهم اليقين من وجود كائنٍ عظيمٍ خالق للسماء والأرض والعناصر، فهُم ببساطة “لاأدريون”!
 
عمق تاريخيٌّ للأديان
إنّ الدّين بالنسبة للإنسان، هو كالماء والهواء، يساعد البشر في إدامة حياته مستقيمةً وصالحة مادامت فيه نسمة الحياة. وقد يختلف التديّن عن جوهر الدّين، إلاّ أنّه مقتبَسٌ من ذات الجوهر وفيه صفاتٌ ومزايا تجعلُ الإنسان العاقل ملتزمًا الدّينَ أو المعتقدَ السائد أو ذاك الذي يسير في هديه.
عرفت البشرية منذ نشأتها، نوعًا من عبادة لكائنات غريبة أو ظواهر طبيعية، مرتبطة مباشرة بسلوك الإنسان وطريقة عيشه. فالإنسان القديم، عُرف عنه تهيُّبُه من ظواهر طبيعية، لحدّ لجوئه إلى الخوف منها وتقديم أضاح وقرابين دلالة لمهابتها والإقرار بقدرتها على التأثير في حياته. وهذه الحالة تتكرّر مع تطور الفكر البشري، لغاية التوصل إلى كيفية تنظيم مثل هذه الممارسات وتطويرها إلى عبادات، أقربَ ما تكون إلى ديانات بدائية. من هنا، كان ظهور أشخاص في مجتمعات على مرّ العصور، لهم بصماتُهم الدينية في توجيه عامّة الشعب. لقد كانت هذه الطبقة من الشعب تمثّل القدوة في توجيه الناس نحو شيء يمكن تسميتُه اليوم ب”الدين” أو المعتقد. وبسبب هذا الأخير وتحفيزه، والطريقة التي تمّ بها تنظيم حياة الناس، نشأت حضارات الشعوب عبر التاريخ.
يحدثنا التاريخ، أن هذه الشريحة من المتخصّصين في مجال العبادة، كانت تتميز بحكمة ورجاحة عقلٍ، في توجيه الناس نحو عبادة كائنٍ معيّن بذاته، سواءً كان ظاهرةً طبيعية أو إلهًا من نوع البشر أو أنصاف البشر أو رمزًا يمثل هذا أو ذاك. عالمُ الأديان الروماني، “ميرسيا إلياد”، رافق شعوبًا أصيلة وعاش بينها من أجل فكّ رموز ما كانت تعتقد به شعوب الأقدمين. وفي الحقيقة، إنّ ما توصل إليه، أنّ معظم المعتقدات أو الأديان التي عرفها العالم القديم، تنحصر ما بين الخرافات والأساطير في أغلبها، حيث أقترنت ممارسات تلك الشعوب بين ما هو مقدّس وعاديّ في حياتها، وحسب الأفكار السائدة آنذاك لكلّ شعب أو قبيلة. وهو يشير بذلك، إلى أحداث قامت بها آلهة أو كائنات خارقة، كان لها الأثر الكبير في حياة الشعوب، ومنها تطورت إلى ما يشبه المعتقد أو الدّين. فلا عجب، أن نجد شعوبًا تعبد وتقدّس حيوانًا كانت له أهيمتُه في حياتها، أو ظاهرة تهيّبوا منها، فجعلوها سيّدةً عليهم، ولها ينبغي تقديم واجب التبجيل والإجلال والأضاحي. ولا ريبَ أن نجد أنَّ مِن الأقدمين، مَن إعتقدوا أنّ الآلهة أو أنصاف الآلهة من البشر، هي التي خلقت العالم، ولها ينبغي السجود والإحترام، لكونها المسؤولة عن تنظيم حياة الناس وتسيير الكون المحيط بهم.
من هنا، يكون الدّين أو المعتقد عبر التاريخ، قد حصل على مرتبة مهمّة في تسيير حياة الناس، باعتباره “الحلّ النموذجي لكلّ أزمة وجودية، من خلال الإيحاء بما هو مقدّس في حياة الإنسان”، بحسب عالم الأنثروبولوجيا ميرسيا. ولكن، ما يجب القول، إن أية ديانة أخرى قبل المسيحية وخارج نطاق اليهودية، لم تمنح قيمة للتاريخ بوصفه تجليًا إلهيًا مقدّسًا مباشرًا لا يقبل الإعادة، كما لم تعرف الإيمان باعتباره وسيلةً للخلاص كما عاشه أبونا إبراهيم الذي آمنَ وعبدَ إلهًا متميّزًا عن غيرهِ، لأنّه عرفَه خالقًا، كما يقول الكتاب المقدس. وهذا ما يميّز الديانة العبرانية ومن بعدها المسيحية والإسلام، عن سابقاتها من المعتقدات والديانات من سمة الآلوهة في مسألة خلق الكون وتدبيره، بسبب إقتران هذا المعتقد، بسمة القداسة لهذا الخالق من خلال عمله الحسن المتمثل بخلق العالم.
عبر التاريخ، تنقّل البشر بين إله وآخر، حسب المصالح وتطور الحياة لديهم. لذا، لا ريبَ أن نجد شعوبًا تخلّت عنها آلهتُها بابتعادها لفترات، ثمّ لا تلبث أن تعود أدراجَها. لكنّ الملاحظ أن هذه الآلهة، على الرغم من إبتعادها عن شعوبها، إلاّ أنها كانت تحتفظ دومًا بقوتها وتأثيرها، حتى في فترات غيابها. فقد إبتعد العبرانيون مثلاً، عن الإله “يهوه”، كلما كانوا ينعمون بشيء من الرفاهة والرخاء وينحازون إلى آلهة جيرانهم مثل عشتاروت وبعل، ولا يعودن إليها إلاّ إذا صادفوا كوارث ونكبات، ليعودوا ثانية إلى طريق الصواب. وعندما تأخر موسى على جبل حوريب وهو يتلقى الوصايا، أُرغمَ أخوه هارون لعمل عجل ذهبي للسجود له كإلهٍ، بسبب إعتقادهم بغياب إلههم التقليدي وتخلّيه عنهم. لكنّ يهوه، لم يغضب أو يخاصمهم، على الرغم من عتابه الشديد لهم على فعلتهم الشنيعة، كما جاء على لسان كليم الله موسى، بل كان يستجيب لهم بعد ندمهم وطلبهم منه إنقاذهم من أيدي أعدائهم ومن دمارٍ يداهمُهم.
إن دلالة العودة إلى الكاهن الأعظم، أي إلى الإله، لا تتغيّر، هي ذاتُها عند البدائيين، تظهر في التجليات المقدسة اليومية. وهذه هي حال البشر اليوم، كلّما مرّوا في الضيقات وتعرّضوا لمصائب، يعودون للتوبة والصلاة والطلبات من الله، لعلمهم أنّه ملئٌ بالرحمة والمحبة لبني البشر، كلّ البشر!
 
* يتبع-..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!