الحوار الهاديء

الإلحاد في زمن العولمة الجزء الثاني

الكاتب: لويس اقليمس
الإلحاد في زمن العولمة
الجزء الثاني
لويس إقليمس
ديانات بدائية (غير إلحادية)
لستُ هنا بصدد التعرّض لتاريخ الديانات القديمة، بقدر ما يهمّني تصفّح أهمية الدين والمعتقد في حياة الإنسان وتسليمه الذات للإله الذي يعتقد بوجوده وبقدرته على التأثير في حياته ما عاش على أديم البشرية.
لقد عرف التاريخ ديانات مهمة: قسمٌ منها ما يزال قائمًا، كالشامانية والبوذية والهندوسية والبراهمانية والتانترية وأخرى غيرها، وجلُّها لا تؤمن بوجود الله، خالقٍ للكون، ولكنها غير إلحادية، بمعنى إنكارها لوجود الله الخالق، والسبب ببساطة، لأنها لم تعرفه. والملاحَظ، أنَّ أتباع هذه الديانات التي لم تعرف إلها واحدًا مسؤولاً عن طبيعة الخليقة والكون، يتسمون مثل أتباع الديانات التوحيدية أيضًا، بثقافة روحانية عميقة، ما تزالُ مزاولة في حياتهم الممتدة منذ النشأة لغاية اليوم، على الرغم من عدم إرتقاء هذه الديانات إلى فهمٍ إيمانيّ عميق. ولكنّها تبقى ديانات كبيرة ولها أهميتُها في حياة البشرية، لأنها تتعامل مع الشأن المقدّس الذي من سماته الأساسية الوجود والإنخطاف وإمكانية القيام بالرحلات الروحية إلى جميع المناطق الكونية والقيام بأعمال خارقة ترقى إلى الأعجوبة أحيانًا. لمْ تعرف حقيقة الخالق أو بالأحرى لم تصل إلى تلك المعرفة، ولكنّها بحدّ ذاتها، تُعدّ تجربة روحية، لا تقلّ عن روحية التصوّف التي عرفتها ديانات توحيدية معاصرة، ملمّة بأسرار الحياة والخلود وما بينهما، من إرتقاء روحي ومن رحلات ممكنة بالصعود إلى السماء والطواف في الأجواء وبين الموتى، وهي دلالةٌ رمزية بمعرفة أسرار الحياة والطبيعة وبسرّ الخلود الذي يأخذ حيّزًا واسعًا في الممارسات العديدة في الحياة اليومية لأتباعها، على الرغم من غرابة بعضها.
من الملاحظ أن بعضًا من الممارسات المعتقدية، لاسيّما الروحانية منها، تشترك فيها اليوم ديانات توحيدية مهمّة، ولكن بطريقة أكثر عمقًا وتطوّرًا، من حيث سعيُها للبحث أو العودة إلى الفردوس المفقود. ولعلّ ميزة النار، هي الأكثر قربًا للتشبيه بين هذه الديانات، قديمها وحديثها، من حيث المفعول التطهيري لهذا الأخير في المفهوم التصوّفي. في ضوء هذه الديانات جميعًا، يترتب”على الراغب بدخول الفردوس أن يجتاز مثلاً، سورًا من نارٍ تحيط به، للدلالة على وجود حدّ بين الفردوس والجحيم. فـ “النار تطهّر الخطايا وتمحو الذنوب”، كما يقول القديس توما الأكويني. وهو ذات المفهوم الذي تعتقد به الشامانية والهندوسية والبوذية وأخرى غيرُها، اليوم أيضًا. فانصراف الإنسان إلى التأمل وحياة النسك والتقشّف القاسية، بهدف بلوغ قدرات خارقة والإتيان بعجائب، ظاهرةٌ أيضًا في حياة النساك والقديسين والمتصوفة في المسيحية والإسلام. وهي لا تختلف من حيث الرغبة الشديدة للمزيد في التقدّم نحو الله خالقه، أي نحو السماء التي يرنو إليها ويسعى لبلوغها، كما فعلها القديس سمعان العامودي، بنصبه عامودًا من دعامات كثيرة يتيح له التحدّث عن قرب مع ربّه. فالمبدأ، هو هو ذاتُه، على الرغم من الإختلاف في الإله المقصود عبادتُه.
كما أن المصريين القدامى و اليونانيين والرومان والإغريق كانت لهم آلهتُهم وأنصاف الآلهة ومن الأبطال والملوك وأزواجهم وأبنائهم وبناتهم. كانت لهم آلهة متعددة ومتنافرة في الحياة العامة والخاصة: آلهة للحب والجمال، للحرب والنصر، للزواج والخصوبة، للشعر والموسيقى، للحكمة والصيد، كما كانت لهم آلهة للبحر والخمر والزواج وللسفر والنار وغيرُها كثيرةٌ. وهذه كانت تتصاهر مع بعضها البعض وتتناسل محتفظة بمزاياها وسط الشعب. لم تكن شعوب هذه الأمم الوثنية حينها تعرف عبادة الإله الواحد، ذلك الإله المجهول، الذي بشّرهم به مار بولس الرسول حينما قدمَ إليهم ببشارة جديدة، بإلهٍ قديمٍ جديد!. فقد أوضحَ لهم أن ذلك الإله المجهول الذي يعبدونه عبر تعدّد آلهتهم، هو الله الحيّ الذي يبشّرهم به إياه، وهو الذي أقام المسيح من بين الأموات. وها هُم أتباعُهم الجدد يحاولون في السنين الأخيرة، النهوض ثانية بهذه الديانات وإحياء طقوس قديمة تمتُّ إلى العهد الوثنيّ الشبيه بطقوس البوذية القائمة حاليًا، من حيث تقديم الأضاحي التقليدية على مذبح وإشعال النار، تمامًا كما كان يفعل الإغريق في قديم الزمان. إنها أشبه برحلة العودة إلى الوراء، إلى الوثنية، إلى نكران وجود الله، إلى الإلحاد، في خضمّ دوّامة العولمة التي تسعى لتغيير وجه العالم وفتح قنوات لا أدرية أقربَ ما تكون إلى الإلحاد منه إلى الإيمان!
 
أوربا بين الإيمان والتفكّك العقائدي
تتعرّض أوربا اليوم، إلى إنهيارٍ إيمانيّ، طُبعها قرونا وسنين طويلة منذ دخول المسيحية إليها في بدايات القرن الأول الميلادي بواسطة الرسل الأوائل، ومنهم بالأخصّ الرسولان بطرس وبولس اللذان نالا الشهادة في روما، بسبب اضطهاد قياصرتها لمقدَمِ المسيحية. أمّا الإنطلاقة الكبرى، فكانت على يد الإمبراطور قسطنطين، إبن الملكة هيلانة، الذي إعتنق المسيحية بدافعٍ من والدته، فزاد من إكرام الصليب الذي عثر عليه جنودُه بإشرافٍ من والدته الملكة التي رافقتهم إلى أورشليم/ القدس في رحلة شاقة للبحث عنه. وكان إشعال النار من بعيد علامةً على نصر جيوشه. هكذا إنتشرت المسيحية إلى دول أوربية أخرى. وتأتي فرنسا في مقدّمة أهمية أوربا، حيث حافظت على الأمانة والوديعة طيلة السنوات المنصرمة، ما أهّلها أن تلقّبَ بالإبنة البكر للكنيسة الكاثوليكية.
مهما يكن من أمرٍ، كانت أوربا وما تزال في نظر الكثيرين، معقلاً للمسيحية وحاميةً لها، على الرغم من الهزّات والتغييرات التي تأثرت بها داخليًا وخارجيًا. فقد سادت الكنيسةُ شؤونَ الحياة السياسية وأصبحت هدفًا للطعن بمصداقيتها بسبب ما أحاط بها من منغصات وقضايا فساد، كان رجالُها والنبلاء والإقطاع فرسانَها، ما اقتضى الإصلاح في فتراتٍ عديدة من تاريخها في عهد ما عُرف بعصر النهضة والتغيير في بدايات القرن السادس عشر. وتطورت الأوضاع فيما بعد، حتى قدوم عصر التنوير والتحديث الذي كفلته الثورة الفرنسية وما تلاها من أحداثٍ درامية تطلّبت تغييرات في بنية الكنيسة وتوجهاتها نحو نظامٍ مؤسساتيّ أكثر نضجًا وتفاعلاً مع المجتمع والإيمان.
لقد نمت المسيحية فيها وزاد معتنقوها يومًا بعد آخر، وظلّت على هذه الحال حتى العقود الأخيرة من القرن الماضي. واليوم، بحسب إحصاءات أولية، يكاد يشكل المسيحيون فيها أكثر من 70% من مجموع سكان أوربا. ولكن هذه النسبة، مهما تعاظمت، فانها لا تعني قوّة إيمانية بما تعنيه الكلمة. ذلك أن الأوربيين قد تراجعت ذروتُهم الإيمانية وتقهقرت ممارساتُهم، لاسيّما في زمن العولمة وما أتت به الفلسفات الإلحادية المادية والديالكتيكية والّلاأدرية المتعددة التي تسيّدت عقولَ الشباب والطبقة المثقفة، فابتعدوا عن الدّين، بل إنهم كادوا ينسون أنّ لهم إلهًا وربًّا في السماء! وهذا ما حدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتوجيه توبيخ شديد اللهجة إلى الغرب المارد إيمانيًا، منتقدًا إياه وبصورةٍ أخصّ الولايات المتحدة، لاتهامهم بـ “إنتهاج طريق الإلحاد ومعاداة الدين وترك الله جانبًا”، بسبب تصرفات هوجاء لا تمتّ للأخلاق والآداب العامة بصلة، بحجة العلمنة وحرّية التعبير وما يسايرُها من مصطلحات تنتهك القيم البشرية السويّة وخليقة الله الحسنة.
لقد سادت الشيوعيةُ بلادَ ما كان يُعرف سابقًا بالاتحاد السوفيتي طيلة أكثر من سبعة عقود مضنية من القهر والكذب والاستباحة لحرية الفرد والمجتمع عبر نظامٍ شموليّ إعتبر “الدينَ افيونَ الشعوب”. فقد تمكن كارل ماركس، بذكائه ودهائه من الإستفادة من الميثولوجيات الوثنية القديمة، في محاولة لضرب الميثولوجيا المسيحية و”العودة لإحياء ميثولوجيا العرق الجرماني المتسم بالوثنية التي فيها دعوة إلى الإنتحار الجماعي”، كما يقول العالم ميرسيا إلياد في كتابه عن “الأساطير والأحلام والأسرار”. ما يعني أن نهاية العالم ستكون بكارثة، وبتعرّض العالم إلى فوضى لحين إنبعاث عالم جديد يعود للبشر بحياة جديدة. وهذا بحسب بعض قدماء الجرمان، يعود لعلمهم وإيمانهم بوجود دورات كونية. لكنّ هذا النظام الشموليّ، لم يستطع التواصل، فحصل ما حصل من كوارث بشرية بسببه، ثمّ ما لبث أن تفتت عضدُه بفعل الدّين الذي حاربّه وأنكرَ فعّاليتَه، وبالتحديد بسبب قوّة المسيحية وتأثيرها العجائبي وصحوتها الإيمانية، على يد البابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي كان له الدور الأكبر في إزالة ظلم الشيوعية وقهرها للشعوب. فعادت تلك الأراضي المترامية إلى حظيرة الإيمان بصحوة حقيقية، كان لها حضورُها على صعيد تغيير العالم، والتصدي للسياسة المتفردة القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن رضخَ بالالتفاف حولها والسير في ركابها من الدول الغربية، بعد أن أهملت سبيل الإيمان بالله جانبًا، وشجّعت على نسيانه وسيادة المادة على أيّ شيء اسمُه الدّين والله والصلاة.
 
يتبع-..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!