آراء متنوعة

الأردن… ذكاء الاستقرار في زمن الانهيار

الأردن… ذكاء الاستقرار في زمن الانهيار

التجربة الأردنية تستحق أن تُقرأ بتمعّن
في مشهد الشرق الأوسط المتقلب والمعقد، يتصدر الأردن دورا فريدا ليس فقط بفضل موقعه الجغرافي الإستراتيجي، بل أيضا بسبب طريقة إدارته الحكيمة والمتوازنة للسلطة، حيث يشكل نموذجا عمليا لفن القوة الناعمة في منطقة لا تستقر إلا بالذكاء السياسي والمرونة.

لا تُقاس قوة الدول فقط بحجم جيوشها أو مواردها الاقتصادية، بل بمدى قدرتها على نسج تحالفات ذكية، واحتواء التحديات ضمن معادلات معقدة تُدار بهدوء وحرفية. الأردن، الدولة ذات الموارد المحدودة، تمكن من تحويل تلك القيود إلى أوراق قوة عبر شبكة علاقات متشابكة من الحكمة والمرونة، تدير القضايا الوطنية والإقليمية بفهم عميق لديناميكيات القوة والهوية.

حين اجتاحت العواصف العربية رياح الربيع العربي، وغرقت المنطقة في متغيرات دامية، لم يغلق الأردن أبوابه أو يرفض العاصفة، بل احتضن إيقاعها، متجاوزا التحديات إلى فرص للحفاظ على وحدة المجتمع واستقراره. ذلك التوازن الداخلي لم يُبنَ فقط على مؤسسات حديثة، بل استند إلى ترابط العشائر والتقاليد الاجتماعية التي شكّلت شبكة أمان تحمي النسيج الاجتماعي في أوقات الانهيار.

◄ الأردن لا يقدّم مجرد حالة “بقاء وسط العاصفة”، بل يبلور تجربة قائمة على هندسة الاستقرار الذكي، حيث تتحرك أدوات القوة بين القبيلة والدولة، الأمن والسياسة، الداخل والخارج

وفي السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الحروب السيبرانية وتوظيف الفضاء الرقمي كساحة اشتباك جديدة بين الدول، عزز الأردن بنيته الدفاعية الإلكترونية بهدوء، مانعا محاولات الاختراق الناعم أو التخريب المعلوماتي، ومستخدما خبراته الأمنية والعشائرية في إحباط مخططات تستهدف زعزعة الجبهة الداخلية. كما أن تعامله الذكي مع مستجدات العدوان على غ*ز*ة، والأحداث في البحر الأحمر، وتنامي الدور الإيراني في الإقليم، أظهر قدرة عالية على امتصاص الصدمات دون الدخول في مغامرات خاسرة، محافظا على دوره كعازل إستراتيجي بين المحاور المتصارعة.

وفي مواجهة أزمة اللاجئين السوريين، أبدع الأردن في تحويل ما كان يُعتبر عبئا ديموغرافيا إلى ورقة تفاوضية وأداة أمنية ذكية، من خلال إدارة الملف بآليات متقدمة تحافظ على الاستقرار الداخلي وتمنح الأردن نفوذا إقليميا مميزا. إذ أن الأمن لا يقتصر على الدبابات والقوات، بل يشمل أيضا توظيف الموارد المحدودة مثل المياه والطاقة كسلاح دبلوماسي فعال.

على صعيد الخطاب السياسي، لا تقتصر قوة السياسة الأردنية على القرارات والمؤسسات، بل تتعداها إلى بناء شرعية وشبكات ولاءات عبر خطاب ينسج بين التاريخ والدين والهوية الوطنية. فالربط بين القدس وعمّان في خطابات القائد يعكس قدرة فريدة على خلق تلاحم داخلي وتحالفات إقليمية عبر لغة مرنة، تترك مساحة للفراغ الإستراتيجي كي تملأه الولاءات والمصالح المتبادلة.

وفي هذا المشهد المركب، يظهر الأردن كالنبتة الصحراوية التي تنبت على الصخر وتزهر تحت الشمس الحارقة، تستمد صلابتها من جذورٍ ضاربة في تاريخ عشائرها، ومن ذاكرة البادية التي تعرف كيف تحرس السوسنة السوداء وتُخفي الماء في ظلال الطلح والرتم.

على المستوى الدولي، يتعامل الأردن بواقعية مع نظام عالمي متعدد الأقطاب، يدير تحالفاته بحنكة واستقلالية نسبية، مستغلا موقعه الجغرافي كقلب النبض الإقليمي، محققا توازنا دقيقا بين القوى الكبرى المتصارعة.

◄ مع تصاعد الحروب السيبرانية وتوظيف الفضاء الرقمي كساحة اشتباك جديدة بين الدول، عزز الأردن بنيته الدفاعية الإلكترونية بهدوء، مانعا محاولات الاختراق الناعم

وفي جوهر هذا الأداء السياسي المتقن، يقدم الأردن درسا خالدا، البقاء والنجاح في بيئة محاطة بالصراعات لا يكون عبر الحصون المنيعة والأسلحة فحسب، بل بفن فتح الأبواب المغلقة بمفاتيح متعددة تجمع بين الحكمة، التكيف، والمرونة. وهذا يطرح سؤالا مهما، هل يمكن تصدير نموذج الأردن؟ أم أن الأردن كالنبتة الصحراوية، يزهر فقط في تربة التناقضات الإقليمية الفريدة التي تحيط به؟

باختصار، الأردن ليس نبتة صحراوية فحسب، بل هو “بستاني” ماهر يعرف كيف يزرع في الصخر، وهو ماء العقلانية الإقليمية والدولية كي تستمر، لا يقدّم الأردن مجرد حالة “بقاء وسط العاصفة”، بل يبلور تجربة قائمة على هندسة الاستقرار الذكي، حيث تتحرك أدوات القوة بين القبيلة والدولة، الأمن والسياسة، الداخل والخارج. هذا النموذج مثالي وليس قابلا للاستنساخ بسهولة، لكنه يستحق أن يُقرأ بتمعّن، لأنه يبرهن أن المرونة ليست ضعفا، بل ذكاء إستراتيجي في جغرافيا سياسية لا ترحم.

من هنا، تفتح الورقة الباب لإعادة التفكير في أدوات الاستقرار الإقليمي، وتحويل النموذج الأردني من حالة مرنة إلى صيغة نظرية قابلة للتطبيق في بيئات سياسية مضطربة مشابهة.

تقع هذه الورقة في المنطقة الرمادية بين “التحليل الإستراتيجي” و”ورقة الموقف” (Policy Brief)، وقد اعتمدت مقاربتها المنهجية على توظيفٍ متقاطع لعدة مدارس فكرية في النظرية السياسية الغربية، أُعيد تركيبها وتطبيقها عبر عدسةٍ شرق أوسطية تأخذ بعين الاعتبار البنية المحلية والواقع الجيوسياسي للأردن.

عبدالكريم سليمان العرجان
كاتب أردني

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!