مريم المختارة من الله
* مريم المختارة من الله *
إعداد / جورج حنا شكرو
في إنجيل لوقا تعلن مريم مكانتها في قلب تاريخ الخلاص ، فتقول : “نظر إلى خادمته الوضيعة، وها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال” (1: 48). وفي الوقت عينه تفسّر سبب كل هذا. ففي نشيد التعظيم (تعطم نفسي الربّ)، كل شيء يعود إلى مبادرة الله. والمشاركة الوحيدة التي نسبتها مريم لذاتها في عمل الخلاص هي أنها الخادمة الوضيعة لله : فبإمحّائها وطاعتها وإيمانها صارت مشاركة لابنها في الفداء وفي المجد .
ونستشفّ هذا الاختيار الالهي وهذه المشاركة البشريّة في خبر البشارة التي نحدّد موقفه في لو 1- 2 وفي تلميحات العهد القديم منذ إبراهيم .
أ- استعداد بعيد
إذا دخلنا في مخطّط الله، نستطيع أن نقول إن اختيار مريم يبدأ مع دعوة إبراهيم، أو حتى مع خلق آدم وحواء. نقرأ في تك 1: 26- 27 أن الله خلق الانسان على صورته ومثاله. خلقه رجلاً وامرأة. وأي بشر أقرب إلى صورة الله من مريم وابنها الذي هو صورة الله الذي لا يُرى (كو 1: 15)؟ وحين دعا الربّ إبراهيم قال له: “أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك، وتعال إلى المكان الذي أدلّك عليه” (تك 12: 1). إذا كان الوارث الحقيقي لإبراهيم هو يسوع المسيح ، فمريم هي حاضرة هنا . امتُدح إبراهيم من أجل إيمانه . وقالت أليصابات لمريم: “طوبى لتلك التي آمنت بأن ما جاءها من عند الربّ سيتم”. (لو 1: 45). وحين يورد متى (ف 1) نسب يسوع، فهو يعود إلى إبراهيم، أبي المؤمنين. “نسب يسوع المسيح، إبن داود، إبن إبراهيم”. فمن إبراهيم خرج يوسف، رجل مريم، التي ولدت يسوع الذي يُدعى المسيح (مت 1: 16). أما لوقا ليعود بيسوع إلى آدم، إبن الله. وهكذا تعود مريم مع يوسف ويسوع إلى بداية البشريّة مع آدم، وإلى بداية الشعب العبراني مع إبراهيم.
منذ البداية أقام الله “عهداً” مع آدم، ودعاه إلى حياته وحبّه . فقابل آدم هذا النداء بالرفض. فاختار الله إبراهيم ليحمل تعليمه إلى الأمم التي تتبارك باسمه (تك 12: 3 بك تتبارك جميع عشائر الأرض). ولكن كانت الخيانات عديدة في تاريخ شعب ، رفض مراراً أن يؤمن بربه ويلتزم بوصاياه، فاختار الله بقيّة مؤمنة هي النسل الروحي لفقراء الربّ والمؤمنين به. تركوا كل شيء وتعلّقوا بالربّ وحده، فكانوا زهرة إس*رائي*ل التي استقبلت المخلص: زكريا، أليصابات، سمعان الشيخ، حنّة النبيّة. وخصوصاً مريم التي هي أجمل زهرة في هذه الحديقة التي فيها يلتقي الربّ (عريس شعبه) بعروسه، أي بشعبه الخاضع له. ولكن يبقى أن عظمة مريم هي أنها أم يسوع، ودعوتها هي أن تكون أم الله. لهذا فعظمتها من عظمة ابنها الذي هو ابن الله.
ب- الحبل بلا دنس
وتدخّل الله في حياة مريم الشخصيّة ، تدخلاً يعني دعوتها كأمّ . من أين جاءتها هذه النقاوة في الإيمان وهذه الجهوزية في الحب اللتين نكتشفهما في جوابها إلى الملاك ؟ من الله. فهو خلقها جميلة ، وخلق فيها هذا الاستعداد لكي تدخل دخولاً تاماً في مخطّطه . هذا لا يعني أن مريم هي “آلة” تحرّكها يد الله . كلا ، بل هي إمرأة حرّة دعاها الله فكان جوابها “نعم” من دون تردّد. هذا ما نسميّه عقيدة “الحبل بلا دنس”. فمريم جميلة كل الجمال منذ حُبلَ بها في أحشاء أمّها حنّة. فمريم نقيّة كل النقاوة، وناعمة بكل قداسة من الدقيقة الأولى لوجودها على الأرض. كيف يسمح يسوع أن يغلب الشر أمّه ثانية واحدة في حياتها؟ فهي التي داست الحيّة الجهنميّة منذ بداية الكون، فكيف للشيطان أن يخدعها كما خدع حواء وكما يخدع كل واحد منا؟ قال الربّ في بداية تاريخ الانسان مع الله : أقيمُ (يا حيّة التى تمثّل الشيطان) عداوة بينك وبين المرأة (تك 3: 15). هذه المرأة هي مريم العذراء، وبقوة ابنها آدم الجديد، ستدوس الحيّة الجهنميّة.
حين رأى النبيّ أشعيا الربّ هتف: “ويلٌ لي، لقد هلكت. فأنا رجلٌ دنس الشفتين، والذي رأته عيناي هو الملك الربّ القدير”. ولكن طار إليه أحد السارافيم وأخذ جمرةً مسّ بها فمه وقال له: “أزيل إثمك وكفّرت خطيئتك” (6: 1- 7). وخاف زكريا حين ظهر له الملاك وأحسّ أنه مائت لا محالة، وأن ما “رآه” لا يصدّق (لو 1: 12). أما دانيال فسقط على الأرض بدون حراك وما عاد يستطيع أن يتكلّم حين حضر عليه الملاك جبرائيل (دا 10: 4- 19). أما مريم فبدت من “أبناء الملكوت” الذين يشاهدون كل حين وجه الآب الذي في السماوات (مت 10: 18). تلك هي إشارة أولى إلى تلك التي حبل بها بلا دنس كما قال عنها قداسة البابا بيوس التاسع سنة 1854.
أرادها الربّ له ، أرادت نفسها للربّ. وتكرّست في البتوليّة . متى كان ذلك ؟ هذا هو سّرها مع الله. فحين حدّثها الملاك عن أمومة تعطى لها، أجابت : “كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً” (لو 1: 34)؟ هذا يعني أنني عذراء. وأريد أن أكون عذراء. وحين نعرف أن إنجيل لوقا دوّن سنة 85 ب. م.، أي بعد أن رقدت مريم وانتقلت إلى السماء، نفهم أن مريم استبقت كلام يسوع في الإنجيل حين تحدّث عن أولئك الذين لا يتزوّجون “من أجل ملكوت الله” (مت 19: 11- 12). ملكوت الله هو يسوع. ومريم أرادت أن تكون بكليتها في خدمة ابنها وإلهها كما عروس نشيد الأناشيد: “حبيبي لي وأنا له” (6: 3).
2- الملاك جبرائيل
وأرسل الله إلى مريم الملاك جبرائيل. أرسله ليعدّ الطريق في قلب مريم لكي تسمع نداء الربّ وتردّ على هذا النداء بكلام يدلّ على طواعيتها وتواضعها: “ها أنا خادمة للربّ فليكن لي بحسب قولك” (لو 1: 38).
أ- بلاغ حمله الملاك
وكان الذي أرسله الله ، هو جبرائيل ، ذاك الذي يحمل النبوءات المسيحانيّة في سفر دانيال ، ويشير إلى المهلة التي تدلّ على تتمّة الاص . وحمل الملاك إلى مريم بشارة الفرح المسيحاني. “إفرحي يا بنت صهيون، ها ملكك يأتيك عادلاً ومخلصاً” (زك 9: 9- 10). “لا تخافي، يا أرض، بل افرحي، فالربّ يصنع فيك عظائم” (يوء 2: 21). “إفرحي يا بنت صهيون، لا تخافي، لأن الربّ الاله هو في وسطك، هو معك” (صف 2: 14- 17). لقد تحققت المواعيد، وحلّت البركة التي أعدّها الرب لجميع شعوب الأرض. فالعالم قد تحرّر وتصالح، فصار عالم أخوّة يشّع فيه حضور الربّ الحميم. هذا هو الجوّ الذي فيه قبلت مريم البشارة. هذه هي النصوص التي تأمّل فيها لوقا حين دوّن خبر البشارة الذي لا يدركه عقل بشريّ . فكلام الله وحده يساعدنا على الدخول في سّر الله، وأي سّر أعظم وأعمق من سّر الله .
كان قلب مريم كبيراً، فتقبّلت هذا الفرح وأنشدته باسمها وباسم شعبها، كما أنشدته باسم شعوب الأرض كلّها، وما زالت تنشده باسمنا. هي بنت صهيون ، أي مدينة صهيون. هي ابنة أورشليم ، أي شعب أورشليم الروحيّة، شعب الله الجديد الذي ملكه يسوع المسيح. هذه هي المرأة الملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها اثنا عشر إكليلاً (رؤ 12: 1). شمس البرّ هو يسوع المسيح وهو يملأها بنوره. القمر يدلّ على النقص والخطيئة، ولهذا فهي تدوسه. أما الكواكب الاثنا عشر فهي كنائس الرسل التي تنسج لها إكليلاً يجعلها سلطانة على السماوات والأرض.
ب- أمّ المسيح والمعبد الجديد
حيّاها الملاك وقال لها: “الربّ معك”. هكذا كان الله مع أصفيائه في العهد القديم . قال لإبراهيم : ” لا تخف، أنا أكون معك، أكون ترساً لك يحميك” (تك 15: 1). ولموسى حين حضر عليه قرب العليّة الملتهبة وأرسله في مهمّة: “أنا أكون معك، وهذه علامة على أني أرسلتك” (خر 3: 12). ولجدعون الذاهب لخلاص شعبه: “الربّ معك أيها الجبار. أنا الذي أرسلتك. أنا أكون معك” (قض 6: 12- 17).
سيكون الربّ مع مريم ، لا كحضور خارجي وبعيد . سيكون في حشاها ويسندها من الداخل. الروح يحلّ عليك وقوّة العلي تظلّلك . سيكون الربّ مع مريم، لانها ستكون أمّه. عاد الملاك إلى النبوءات القديمة يحدّث مريم من ذاك الذي سيكون ابنها . “ستحبلين وتلدين ابناً تسمّينه يسوع” (لو 1: 31). هذا ما قاله ملاك الربّ لهاجر خادمة إبراهيم: “ها أنت تحبلين وتلدين ابناً تسمّينه إسماعيل” (تك 16: 1). وقال لأم شمشون : “أنت عاقر، لكنك ستحبلين وتلدين ابناً… به يبدأ خلاص شعبه” (قض 13: 3- 5). ولكن الموازاة الأهم هي مع أش 7: 14 كما أورده مت 1: 21- 23: “ها إن العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى اسمه عمّانوئيل” أي : إلهنا معنا . لسنا فقط أمام عاقر تأخّرت معها الأيام، ولكنها حبلت في النهاية. هذا ما حدث لسارة، زوجة إبراهيم ولإليصابات أمّ يوحنا المعمدان.
أما مريم فقد حبلت وهي بتول. كانت بتول قبل الولادة ، وفي الولادة ، وبعد الولادة ، كما يقول التعليم العاديّ في الكنيسة . لا شكّ في أن بعض الشيع ترفض الحديث عن بتوليّة مريم . فهي كانت كسائر النساء . يفعلون هذا لكي يعظّموا ابنها يسوع، وكأنه إذا كانت مريم عظيمة أخذت من أمام ابنها بعض العظمة.
قال إفرام السرياني : أنت وحدك (يا ربّ) وأمك . فمريم تبقى فريدة بين جميع البشر . وحين قال لها الروح بلسان أليصابات : ( مباركة أنت في النساء ) ، فهذا يعني أنها كانت مباركة كما لم تبارك إمرأة على الأرض . كما لم يبارك إنسان ، بل الملائكة في السماء . وقد قال لها الملاك : أنت مملوءة نعمة . لا شكّ في أن الله يعطي نعمته . ولكن مريم تقبّلت هذه النعمة كما لم يتقبّلها كائن بشري . كانت كلها انفتاح على عطيّة الله ، فاقتبلت في حشاها ابن الله وكلمة الله .
وهكذا صارت مريم المعبد الجديد . كان معبد سليمان يدلّ على حضور الله في وسط شعبه . في هذا نقرأ أولاً عن خيمة الاجتماع التي هي صورة مصغرّة عن الهيكل : “غطّى السحاب (الغمام) خيمة الاجتماع، وملأ مجد الرب المسكن. فلم يقدر موسى أن يدخل إليه” (خر 40: 34- 35). وهذا ما حدث يوم تدشين هيكل سليمان: “ملأ السحاب هيكل بيت الربّ، فلم يقدر الكهنة أن يؤدّوا الخدمة، لأن مجد الربّ ملأ الهيكل” (1 مل 8: 10- 11) . ومريم قد حلّ عليها الغمام ، بل حلّ عليها الروح القدس وقوّة العلي ظلّلتها . لم تكن فقط رمزاً إلى حضور الله ، بل كانت حقاً حضور الله ومن تحمله في أحشائها هو ابن الله بالذات…
(نداء الفرح والخلاص)
المونسيور بولس الفغالي