وتتواصل الانتهاكات.. في الذكرى السنوية الخامسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الانسان
يمثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واحدا من المعالم البارزة في مسيرة حقوق الإنسان، إذ صاغ الإنجازات الاجتماعية في قواعد ووثائق قانونية ملموسة. وجاء الإعلان، وفقا لديباجيته، رداً مباشراً على “سوء الفهم وتجاهل حقوق الإنسان” الذي أدى إلى “أعمال بربرية أساءت بشدة إلى ضمير الإنسانية”. وفي المستقبل، لا بد من منع حدوث انهيار حضاري مثل المحرقة والدمار الذي جلبته الحرب العالمية الثانية. وبرئاسة الأمريكية إليانور روزفلت، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة المنشأة حديثا الوثيقة التي وجدت تقليدا لها في جميع أنحاء العالم، مثل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950 أو ميثاق بانجول الأفريقي لعام 1981.
وعلى الرغم من ان الإعلان هو وثيقة غير ملزمة قانونا، لكنها كانت أساساً لإبرام العديد من المعاهدات الدولية، والتي غيّرت القانون وواقع الحياة في العديد منها بشكل دائم. ويضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الحق في التجمع في جميع أنحاء العالم (المادة 21). ويشكّل هذا الحق من حقوق الإنسان أهمية خاصة في وقت ترتفع فيه أصوات القوى المهيمنة في المراكز الرأسمالية، لجعل حرية التجمع خاضعة لأولويتها، ورؤيتها العنصرية، وتحيزها الفظ، إزاء الإبادة الجماعية الجارية في غ*ز*ة.
وفي بلداننا المبتلاة بالفوضى والاستبداد، يجري تكرار الحجة البائسة بان منظومة حقوق الانسان نتاج اوربي خالص، وانه مستورد من خارج الحدود وغريب عن مجتمعاتنا. وفي أوربا وبلدان الشمال الأخرى، يجري تكرار الموضوعة ذاتها، لإنكار مشاركة تأثيرات شعوب أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا، بما في ذلك شعوب البلدان العربية التي لعبت دورا رئيسيا في إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ويمكن الإشارة الى مشاركة السياسي اللبناني تشارلز مالك والفيلسوف الصيني بينج تشون تشانغ في المسودة الأولى. وبفضل المعلمة الهندية هانزا ميثا والسياسية مينيرفا برناردينو من جمهورية الدومينيكان، تم التعبير بوضوح عن المساواة القانونية بين الجنسين في إعلان حقوق الإنسان. وبدون تأثير المحامين السوفييت وزملائهم من أمريكا اللاتينية، ربما لم تكن هناك حقوق إنسانية اجتماعية مثل الحق في الضمان الاجتماعي (المادة 22) أو الحق في العمل والمساواة في الأجر وحرية تكوين الجمعيات (المادة 23).
النقد الصحيح للإعلان في مرحلة ما بعد الاستعمار يتجسد في عدم احترام حقوق الإنسان، وسيادة المعايير المزدوجة في البلدان الرأسمالية المتطورة؛ ففي وقت مبكر من عام 1948، كان الإعلان مثيرا للجدل بين ممثلي هذه البلدان. لقد كانت دول مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وهولندا لا تزال تحتفظ بمستعمرات، والتوقيع على الإعلان جعلهم في حاجة ماسة إلى التبرير. وبناء على ذلك، تنص ديباجة الإعلان على أن الجمعية العامة تنظر الى الإعلان “باعتباره المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه جميع الشعوب والأمم، حتى يتمكن كل فرد وجميع هيئات المجتمع من إبقاء هذا الإعلان حاضرا على الدوام، ويسعى جاهدا من خلال التعليم والتربية “لتعزيز احترام هذه الحقوق والحريات”. بمعنى آخر ان الإعلان بوصلة وليس مهمة يجب تحقيقها.
ومن الخطأ أن تدفعنا آلاف الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان الى التعامل مع مضامين الإعلان بمعايير نسبية، أو نتخلى عنه تماما. إن فهما كهذا ينعكس سلبا على الحركات المعارضة والاحتجاج، التي تطالب بحقوق الإنسان الأساسية والديمقراطية، كما هو الحال في العراق والعديد من بلدان العالم. وبدلاً من التخلي عن حقوق الإنسان، ينبغي ممارسة الضغط من أجل ان تصبح مضامين الإعلان ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
واليوم، العاشر من كانون الأول، حيث يُحتفل بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لصدور الإعلان، فان حالة حقوق الانسان في العالم سيئة، وإن المزيد والمزيد من الدول في جميع أنحاء العالم تتطور إلى أنظمة استبدادية وديكتاتوريات قمعية، لا قيمة فيها لحقوق الإنسان. ومن الممكن أيضاً ملاحظة التآكل الكبير للديمقراطية وسيادة القانون في دول الشمال العالمي، والتي من المفترض ان تكون أكثر التزاما بها.
عبر التاريخ، كان لا بدّ من النضال الصعب لانتزاع حقوق الإنسان من المتسلطين. لقد استند العديد من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، والمدافعون عن حقوق الإنسان، والنقابات العمالية، والحركات النسويات، ونشطاء المناخ، والمنظمات غير الحكومية الى مضامين إعلان حقوق الإنسان في عدد لا يحصى من الدعاوى القضائية والوثائق. ومع ذلك، فليس من المستغرب أن يتم انتهاك حقوق الإنسان بشكل منهجي؛ ففي نهاية المطاف، يتعارض تحقيقها مع الهيمنة الرأسمالية. في كتابه “القانون الطبيعي وكرامة الإنسان”، طرح الفيلسوف الماركسي الألماني إرنست بلوخ الضرورة الحتمية الاتية: “لا تأسيس حقيقي لحقوق الإنسان من دون وضع حد للاستغلال، ولا نهاية حقيقية للاستغلال من دون ترسيخ حقوق الإنسان”. وسوف يظهر كفاح الـ 75 سنة القادمة ما إذا كانت البشرية ستقترب من هذا المعيار. على أية حال، فإن المعركة حول هذا الأمر لم تُحسم بعد.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.