الخَلَّاطُ
علي الجنابي
قبسٌ في رمضان..
قالَ خليلي وهو يُحَدِّثُني بتَرَنُّمٍ وباغتِباط:
لستُ بالدِّينِ مُتفقهاً، وما أنا إلّا مسلمٌ عَلِمَ قليلاً من مناسكٍ وبها ما أحاط، وتراهُ مُذَبذباً في إدائِها، في حرِّ تموزَ، وفي قّرِّ شَهرِ شباط،
بيدَ أنّي لن أكونَ جلّاداً لظهري بالسِّياط، وأظُنُّني من ثلَّةٍ “ءَاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا”. وإذاً يا صاحُ، فأنا امرؤٌ متَهَوِّرٌ شَطَّاط مُتَكَوِّرِ خَلَّاط.
وإذ رَجَعتُ من مسجدِ الحيِّ ذاتَ فجرٍ ربيعيٍّ بشغفٍ واغتباط، وإذ شَخيرُ الأنامِ في ينطَلقُ مِن أسرَّةِ الحُجُراتِ والغُرُفاتِ، رُبَما همُ نُوَّمٌ على بلاط. وقد كانَ الشَّخيرُ مسموعاً في الطُّرقاتِ بشتَّى الأنماط، وكأنَّهُ زفافُ قبيلةٍ من قبائلِ الوُطواط. ولسوفَ يستيقظُ الأنامُ بعدَ هُنيهَةٍ وكأنَّ أحدَهم ضامنٌ من الجنَّةِ ألفَ قراطٍ وقراط. وإذ ترى المرءَ منهمُ يماطِلُ في اللهِ بانخراط، ويُجادلُ في “صحيحِ البخاري”، ولا يحتاط، وتراهُ يُشَرِّحُهُ بأجرب مالديهِ مِن مِشراط، مُتناسياً أنَّ شخيرهُ قبيلَ لحظاتٍ كانَ يُغَلِّفُهُ الفُساءُ والضّراط.
وإذ كنتُ أدندنُ بتلاوةِ آياتِ سورةِ “براءة” برقَّةٍ وبدِقَّةِ خشيةَ الأغلاط. وإذ رأيتُني أصلُ الى آيةِ؛ “وَءَاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا”، بخُشوعٍ وانضِبَاط. وإذ نُسِّيتُ خِتامُ الآيةِ المباركةِ عن جَهلٍ منّي أو بإسقاط، أو غُمَّ عليَّ ختامُها بإقماط، أو لعلَّ ختامَها قدِ التبسَ عليَّ رُغمَ ما كانَ في خَافقي من نَشوةٍ ونَشاط. فَضَربَت صدريَ حَوبةٌ منَ ضِيقِ بِخَجلٍ بل نوبةٌ من إحباط.
وإذاً، فقد ضاعَ الأمرُ عليَّ ما بينَ ختامٍ؛ “واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” لكلِّ متهوِّرٍ خَلَّاط، وبينَ ختامٍ؛ “إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”، مَهما كانتِ الأَغْلاَط. لذلكَ رأيتُنيَ أتَوقفُ عن التلاوةِ وأتَلَقفُ دَندنةً أخرى كأنَّي بها كانَت تأزُّني تحتَ النِّياط. كانَتِ الدَّندنةُ تلهجُ بدعاءٍ مُتَضَرِّعٍ في أن يكونَ الختامُ مؤَكداً؛ “إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”، مَهما كانتِ الأَغْلاَط.
ولمَّا أن وَصَلتُ الدَّارَ تصفَّحتُ المُصحفَ بلهفٍ كلهفَةِ مُطمَئِنٍّ مُبَشَّرٍ بعبورِ الصِّراط. ورُغمَ أنَّ قلبي يَعرفُ ربَّهُ وكانَ مُتَيقِناً بأنَّهُ سيجدُ الختمةَ المُوَكدَةَ ب”إنَّ” مَهما كانتِ الأوزارُ والأَغْلاَط، لكنَّ لسانَ حالِ القلبِ ساعتئذٍ كانَ يقولُ بانضِغَاط: ” بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي” بإحتِيَاط. ثُمَّ إنَّ القلبَ يُريدُ حِفظاً دقيقَ المباني ويضعُ الحروفَ على النِّقاط، لئلَّا يَحيدَ عن رقيقِ المعانيَ وما احتوَت من بُشرَياتٍ وأنواط.
ولمَّا أن قرأتُ الآيةَ المباركةَ وجدتُ ختامَها؛ “وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”، مَهما كانتِ آثامُهمُ وأوزارُهمُ وذنوبُهمُ ومعاصيهمُ والأغلاط. ثمَّ قالَ خليلي وهو يُحَدِّثُني بتَرَنُّمٍ وباغتِباط:
أبشِرْ، “إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”، ألا يا أيُّها الخَلّاط.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.