نبّوتُ الكاهن يوسف الحادُّ
نَبّوت الكاهن يوسف الحادُّ
بقلم الكاهن الأكبر، عبد المعين صدقة إسحاق الحفتاويّ، 1927–2010
The Sharp Cudgel of the Cohen Yousuf
A Story by the High Priest, ˓Abd al-Mu˓īn Ṣadaqa Isḥāq al-Ḥiftāwī, 1927-2010
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון 2021, כרך ב’ עמ’ 582-579.
المعلِّم الشابّ اللاويّ يوسف ابن أبي الحسن
إنّي أحترم وأُبجّل جدًّا، حضرة الكاهن الأكبر يوسف ابن أبي الحسن بن يعقوب. تعود علاقتي به لسببين: عندما كنتُ أتعلّم التوراة عند والده، الكاهن الحكيم، أبو الحسن يعقوب، كان مساعدًا لأبيه من حين لآخرَ، في تعليم تِلاوة التوراة، مع أنّه ”فظّع“ في ضرباته لي؛ أبوه لم يضربْني قطّ.
أمّا السبب الثاني فهو موضوع القصّة التي أقصّها الآن، وبفضله أنا مَدين له باحترام، لن يتمَّ سدادُه، على ما يبدو، أبدًا.
أشعر بأنّه عليّ أن أُحدّثكم عن خلفيّة القصّة أوّلًا. وُلدتُ في العام 1927، الذي كان تحوّلًا في تاريخ السامريّين. في ذلك العام حدثت الهزّة الأرضيّة الشديدة، التي ضربت نابلس ولا سيّما حيّ السامريّين القديم – حارة الياسمينة. دُمِّرت بيوت كثيرة في الحيّ، نجا ساكنوها وأقاموا الخيام في قسيمة المقبرة السامريّة في راس العين في نابلس. آنذاك، كان جدّي إسحاق عِمران الكاهن الأكبر، الذي أمر بعد مرور ثلاثة شهور، بالعودة إلى الحيّ المدمّر ومحاولة ترميمه.
عندها، هبّ المحْسن النابلسيّ، أحمد الشكعة [الحاجّ أحمد محمّد حسن الشكعة، 1880-1952]، لمدّ يد العون للطائفة، ببيع قسيمة أرض كبيرة، تكفي لإسكان جميع أبناء الطائفة يومها، وذلك بسعر رمزيّ.
وفي أعقاب ذلك، بدأ تدفّق بطيء لأبناء الحيّ القديم إلى قسيمة الأرض الجديدة. عائلة تلوَ الأُخرى، شيّدت لها بيتًا جديدًا في قسيمة الأرض في جنوب غربيّ نابلس، على سفح جبل جريزيم. البيوت العتيقة المتصدّعة جدّا بسبب الهزّة الأرضيّة، قد بيعت بسعر زهيد للمسلمين. بعض الأُسر التي لم تملك المبلغ الكافي لبناء بيت في القسيمة الجديدة، استمرّت في السكن في الحيّ القديم، وتمّ تصليح وترميم الشقوق بصورة بشعة لدرجة أنّها بدت كرُقَع كبيرة على رداء.
كما نوهّنا، معلّم القراءة في التوراة وحفظ الصلوات غيبًا كان الكاهن أبو الحسن يعقوب. لا نظيرَ له من حيثُ الكمّ الهائل لأسفار التوراة، والصلاة والتفاسير الوعظيّة (المِدْرَشيم) وشروح التوراة، التي نسخها ليلاً ونهارا. لكن عندما كنّا نأتي إليه للقراءة في التوراة، كان يترك كلّ أشغاله، يُداعب لحيته البيضاء الطويلة، يُلقي علينا، نحن الأطفال الصغار، نظرةَ محبّة وعطف، ويُشير إلينا بيده للجلوس وفتح كتب التوراة الصغيرة الي أحضرناها معنا.
كان الكاهن أبو الحسن من الذين استمرّوا في السكن في الحيّ القديم. ذلك لأنّه لم يملِكِ المبلغ المطلوب لبناء بيت جديد في الحيّ الجديد، الذي كان في طوْر الإنشاء. ونحن الأطفال، قمنا بما فعله فتيان آخرون أكبر منّا سنّا، ذهبنا قُرانى/مجموعات كلَّ صباح من منازلنا في الحيّ القديم.
كنا نتجمّع فرحين سُعداء، في شِلّة عند قدومنا إلى بيت الكاهن أبي الحسن، وعند مغادرتنا له، وكان يتفرّغ لنا، باستثناء تلك المرّات التي كانت تمنعه من ذلك أشغالُه، أو مجيء ضيف أجنبيّ لزيارة الكنيس القديم. عندها، كان يُكلِّف ابنَه بِكره يوسف بتعليمِنا. ذلك المعلّم الشابّ، ذو العضلات واليدين القويّتين، كان سُرعان ما يفقِد صبرَه عند سماعِه للأخطاء التي كنّا نقع فيها عند القراءة، ومن هنا وإلى رفع العصا التي بيده كان الفاصل جدّ قصير. أصواتُ صيحاتنا كانت تُسمع في كلّ أرجاء الحيّ القديم.
تنفّس الصُّعداء من أفواهنا كلّنا في الوقت ذاته، كان يُسمع حين عودة الكاهن أبو الحسن من أشغاله لتعليمنا، ويشير لابنه بالانصراف. والكاهن الشابّ يوسف، لم يكن يُخفي عدم رضاه من ذلك.
أبو بقلولة الأحدبُ الشّرّير
لكن المصيبة الكبيرة ألمّت بنا من مصدر آخرَ، لم نتوقّعه على الإطلاق. مصيبة تمثلّت بشخص عربيّ من سكّان الحيّ المجاور. لا أذكر اسمه الحقيقيّ، بل كُنْيته فقط وهي أبو بقلولة. وما هي البقلولة؟ إنّها جرّة الفَخّار الصغيرة التي استخدمها بائعو الحليب، وفيها كميّة ثابتة من الحليب، طلبها السامريّون خصّيصًا لصُنع الجبنة.
لماذا أطلق الناس عليه اسمَ بقلولة؟ لا أعرف. المهمّ أنّ الكُنية لازمتْه إلى داهر الداهرين. أبو بقلولة كان فزّاعة الأطفال؛ كان قصيرَ القامة وسمينًا جدًّا، ذا حَدَبة ضخمة على ظهره. كان ذا شاربين كبيرين ونظرة عينين قاتلة. كان يظهر في أحلامي أحيانًا، وكنت أستيقظ وكلّ جسمي يتصبّب عرقًا باردا. وكانت لأبي بقلولة هِواية غاية في الغرابة، التنكيل بالأولاد الصغار وتمرير حياتهم. وبالأساس، أُغْرِم بفعل ذلك للأولاد السامريّين.
ذات يوم، عند سيرنا في طريقنا كالعادة دائمًا، إلى بيت الكاهن أبي الحسن بشِلّة كبيرة من الأطفال الفرحين المسرورين، فاجأنا أبو بقلولة الأحدب في رُكن الزُقاق المؤدّي إلى بيت الكاهن. كان يمسِك نبّوتًا كبيرًا، ولم تكن ثمّة حاجة إليه لإسكاتنا المطبق والمفعَم بالخنوع، إذ أنّ منظره المهدّدَ كافٍ لذلك. لم يكن أمامَنا أيّ مفرّ. أبو بقْلولة سدّ بجسمه القصير والسمين زاويةَ الزُّقاق. ومن الخلف كان جِدار مقعّر كبير جدًّا وإليه تقرفصنا خوفا.
نظر إلينا أبو بقلولة وقهقه. أمرنا بنبّوته الذي بيده بالانتظام بصفّ. وبصوت مهدّد أمرنا بتفريغ جيوبنا، ومن حمل بيده كيسًا من القُماش وفيه طعام ما، أُمِر بتقديمه لأبي بقلولة. هذه المرّة استطاع أبو بقلولة ”تجميع/تقشيط“ حوالي ثلاثة قروش منّا كلّنا، منها قرش كامل اضْطررت أن أفارقه بحزن شديد. أذكر أنّي وفّرت/صمّدت هذا القرش ملّيمًا بعد ملّيم، وعندما أصبح لديّ عشرة ملّيمات، سُررت لاستبدالها بقرش كامل. لم يكن لأبي بقلولة الوقت لسماع حكاية التوفير من فمي المرتجف.
وكان نصيبُ كلّ ولد، لم يكن بحوزته أيّ شيء، ضربةَ ذراع أبي بقلولة وتربيتة بالنبّوت الثقيل على قَفاه. بعد ذلك، دار أبو بقلولة وذهب حاملًا غنيمة ابتزازه. أخيرًا، وصلنا بيت الكاهن أبي الحسن شاكين باكين.
لم يخْفَ حزنُنا على عيني يوسف الكاهن الشابّ الفاحصتين، ومعلّمنا وقت الحاجة. سألَنا فورًا: ما بالكم ، وجوهكم مكفهرّة، ”مش على بعضكو“، هل حلُمتم كلّكم حُلمًا سيّئا؟ إذن، هيّا اِحكوا لي بدون تأخير وإلّا فالأسوأ آتٍ. أنا بدأت بالحديث، إذ أنّ مقدار النقود الذي سُلب منّي كان الأكبر، ورأسًا بعد ذلك انضمّ كلّ أفراد الشّلّة. أسرع الكاهن يوسف لتهدئتنا وإسكاتِنا جميعًا وطلب منّي سردَ ما حصل لنا.
بعد أن أنهيتُ حديثي، لاحظتُ أن عيني الكاهن يوسف تلمعان بغيظ شديد، همس من بين أسنانه المشدودة: سألقّن أبا بقلولة الشّرّير درسًا. طالب الكاهن يوسف، وحصل على تفاصيلَ كاملة عن المكان الذي كمن لنا فيه أبو بقلولة. بعد ذلك، قال لنا: لا تخافوا، لن يُنكّل بكم بعد.
النبّوت المنتقِم
في صباح اليوم التالي، سِرنا في طريقنا إلى بيت الكاهن أبي الحسن، ولكن هذه المرّة كنا هادئين، حَزانى، متخوّفين من ظهور أبي بقلولة. هو لم ”يخيّب الأمل“. في زاوية الزُقاق ذاتها، التي يمكن سدُّها بسهولة، انتظرَنا. ورتّبنا مجدّدًا بصفّ واحد، أمرنا بتفريغ جُيوبنا.
كانت شِلّة الأولاد محصورةً في زاوية الزّقاق، وأبو بقلولة اِنحنى نحوَنا بنظرة تهديد عارفًا بوضوح أن لا مهربَ منه. على حين غِرّة، في ظلمة الزُّقاق، بدا أبو بقلولة راكعًا على الأرض، مُطلقًا صيحاتٍ مرْعبة. تمكّنّا من رؤية الكاهن يوسف ممسكًا بنبّوت أغلظَ من نبّوت أبي بقلولة بعدّة مرّات، ويضرب به بقوّة كبيرة ظهرَ وحدبة أبي بقلولة، إلى أن فقد وعيه.
دسّ الكاهنُ يوسفُ يدَه المنتقمة في جُيوب أبي بقلولة والتقط الغنيمة فوزّعها علينا.
منذ ذلك الحين، لا أحدَ رآه.