مقالات

فرنسا: سيدة العدل… بشرط أن تكون العدل فرنسياً! – الواسع

ذات صباح باريسـي عبوس، استيقظت فرنسا على نبأ تطالب فيه الجزائر بإطلاق سراح موظف يعمل في قنصليتها على الأراضي الفرنسية. فرنسا، كالعادة، ارتدت قناع “دولة القانون والمؤسسات”، وردّت بكل حزم ووقار: “نحن لا نتدخل في شؤون القضاء!”
آهٍ يا هيبة القضاء الفرنسي… لا يُملي عليه أحد شيئاً، لا رئيس ولا وزير، ولا حتى جدّ موليير!

لكن لا تفرحوا كثيراً بهذا الصمود القضائي. فبعد دقائق، وربما في نفس المبنى الحكومي، رفعت فرنسا صوتها مطالبة الجزائر بإطلاق سراح صنصال أو غيره من “مفكري الجمهورية”، بذات الحزم والوقار، ولكن هذه المرة دون أي حرج من التدخل في القضاء الجزائري!
كيف؟ لماذا؟ ألم تكن العدالة مستقلة؟
حقيقة في مشهد يعكس ازدواجية المعايير في السياسات الغربية عموماً والفرنسية خصوصاً، رفضت الحكومة الفرنسية مؤخراً طلب الجزائر الإفراج عن موظف بالقنصلية الجزائرية في فرنسا، مبرّرة قرارها بأن “العدالة مستقلة” ولا يمكن للسلطات التنفيذية التدخل في شؤونها. هذا الرد، الذي يحمل في طياته نبرة رسمية صارمة، قد يبدو في ظاهره احترامًا للمؤسسات وفصلًا للسلطات، لكنه لا يصمد طويلًا أمام أول اختبار للاتساق.

ففي الجهة المقابلة، لا تتوانى باريس عن مطالبة الجزائر بإطلاق سراح بعض الشخصيات التي تتبناها فرنسا تحت راية “حرية التعبير”، على غرار الروائي بوعلام صنصال وآخرين، معتبرة أن حبسهم “يتنافى مع القيم الديمقراطية”. وهنا تطرح الجزائر سؤالاً مشروعًا: ألم تكن العدالة الجزائرية أيضًا مستقلة؟ أم أن المبدأ لا يسري إلا باتجاه واحد؟

التناقض لا يقف عند حدود هذا الملف. بل يعيد إلى الأذهان سلسلة طويلة من الحالات التي طالبت فيها فرنسا الدول الأخرى بالتدخل في أحكام قضائية، أو حتى التأثير على سير العدالة بدعوى حقوق الإنسان. وفي كل مرة، يتوارى مبدأ “استقلال القضاء” خلف ستار المصالح الدبلوماسية والمواقف السياسية.

إن هذا التعامل الانتقائي مع القيم القانونية والأخلاقية يقوّض ما تبقى من مصداقية للخطاب الفرنسي في الفضاء الدولي، ويغذي الشعور العام في بلدان الجنوب – وعلى رأسها الجزائر – بأن “العدالة” في القاموس الفرنسي تصبح مرنة ومطّاطة حين يتعلق الأمر بمصالحها أو بنصرة من يتبنّى خطابًا يرضي دوائرها الثقافية والسياسية.

لقد آن الأوان أن تتخلى فرنسا عن هذا النمط من الخطاب الأبوي الذي يعامل شركاءها كقاصرين يحتاجون إلى وصاية، وأن تتقبل مبدأ المعاملة بالمثل في تطبيق القوانين واحترام السيادة، لا أن تحاضر في الديمقراطية نهارًا وتغض الطرف عن تناقضاتها ليلًا.

فالعلاقات الدولية لا تُبنى على الشعارات، بل على احترام متبادل واعتراف متبادل بالندية والحقوق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!