مقالات

مآلات ومستقبل الدولة السورية ما بعد الاتفاق: شروط وتحديّات –

يُمثّل الاتفاق بين القيادة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الذي عقد في العاشر من آذار الحالي، نقطة تحول هامة في المشهد السياسي السوري، بهدف تحقيق نوعاً من الاستقرار الداخلي وإنهاء حالة الانقسام.
وتكمن أهمية الاتفاق في أنه أعاد، في خضم نزاع وقتال داخلي وشبح حرب أهلية، توحيد البلاد تحت قيادة النظام السوري الجديد، ومن المرجح أن يتبنى النظام السوري صيغة من “اللامركزية الإدارية الموسعة”، بحيث تبقى السلطة السيادية موحدة مع توزيع الصلاحيات للإدارات المحلية.
أبعاد جيوسياسية وأمنية
ويبدو ان ملامح الاتفاق قد بُنيت وفق معطيات جيوسياسية واستراتيجية وميدانية هامة، والأهم في ضوء تطورات إقليمية شديدة التعقيد، فرضت على القوى الوطنية الاحتكام إلى مبدأ الإجماع والتفاوض، عوضاً عن التصعيد والمواجهة، خاصة بعد الفوضى ومجاز الساحل السوري من ميليشيا وعناصر تخريبية موالية للنظام السابق وبعض القوى الإقليمية.
بالإضافة الى الاتفاق على دمج قوات “قسد” ضمن مؤسسات الدولة السورية، فقد تضمّن الاتفاق الاعتراف بالهوية الثقافية والسياسية للأكراد ومنحهم حقوقاً ثقافية وتعليمية موسعة، مثل استخدام اللغة الكردية في التعليم الرسمي إلى جانب العربية، وتمثيل سياسي في الحكومة السورية، سواء عبر تعيينات رسمية أو عبر حصص محددة في البرلمان القادم.
وعلى الصعيد السياسي والإداري تضمن الاتفاق، كما يبدو، إعادة دمج المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” تحت مظلة الدولة السورية وقبول دمشق بإدارة لامركزية موسعة لمناطق شمال وشرق سوريا، لكن مع الحفاظ على سيادة الدولة السورية، ومن المرجح أن تبقى المؤسسات الإدارية المحلية لتنظيم “قسد” تعمل، ولكن ضمن إطار قانوني جديد يتبع الدولة السورية.
وعلى الصعيد الأمني والعسكري، ستتحول “قسد” إلى قوة عسكرية نظامية تحت قيادة الجيش السوري، ونتوقّع إمكانية تشكيل “حرس حدود” خاص بالمناطق الشمالية، بحيث يتم استيعاب القادة العسكريين من “قسد” في مؤسسات الجيش، لكن مع إعادة هيكلة تدريجية لمنع أي نزعات انفصالية مستقبلية.
ورغم أن الاتفاق لم يتطرق للقوات الأمريكية في سوريا، فانه قد يشمل مفاوضات مع الولايات المتحدة لضمان انسحاب قواتها من شمال شرق سوريا، مع ضمانات بعدم استهداف القوات التركية للأكراد، ونعتقد أن تقدّم دمشق التزامات لتركيا بعدم السماح لحزب العمال الكردستاني (PKK) باستخدام الأراضي السورية كقاعدة له.
تحديات مفترضة
ويواجه الاتفاق تحديات مفترضة رئيسية، أهمها: رفض بعض الفصائل الكردية للاتفاق، فهناك تيارات، حتى من داخل “قسد”، تعارض دمج قواتها في الجيش السوري، خاصة العناصر الأكثر ارتباطاً بحزب العمال الكردستاني، لذا من المتوقع حدوث انقسامات داخلية “قسد”، قد تؤدي، في أي لحظة، إلى اضطرابات أو تأخير تنفيذ الاتفاق.
الحسابات التركية من الاتفاق مختلفة وحساسة للغاية، لكنها تتفهّم المصلحة المشتركة بين البلدين من حسم هذا الملف المؤثّر، لم ترفض فعلياً الاتفاق، لكنها سترفض حتماً النتائج المترتبة على توسيع مساحة الحركة السياسية أو زيادة صلاحيات جيوسياسية واسعة لتنظيم “قسد”، خاصة إذا لم تحصل على ضمانات أمنية بعدم دعم حزب العمال الكردستاني (PKK).
ونتوقع عقد صفقة أمنية بين القيادة السورية وتركيا تمنع قيام كيان كردي مستقل مقابل انسحاب تدريجي للقوات التركية من الشمال السوري في المستقبل.
وبحسب الأخبار، فان الولايات المتحدة ساهمت في تشجيع الطرفين على الاتفاق، لكن الرؤية الأمريكية ترتبط بما يضمن حماية مصالحها في سوريا، في حال قررّت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” سحب القوات الأمريكية من القواعد السورية.
نموذج الحكم الأصلح
وحول شكل وطبيعة النظام السياسي القادم، في ظل التطورات الأخيرة والاتفاق مع “قسد”، فمن الصعب تصور انتقال فوري إلى نظام مشاركة سياسية حرّ وتداول سلطوي بشكل ديمقراطي كامل، لكن يمكن أن يكون هناك نموذج “ديمقراطية متعددّة توافقية” يوازن بين القوى السياسية والاجتماعية، فالنظام السياسي الجديد سيتشكل بناءً على عدة عوامل، أهمها: “حوار وطني” حقيقي بين كافة الفرقاء والقوى الوطنية، ويفضل مأسسة “مؤتمر الحوار الوطني” كهيئة استشارية وتشريعية، ليكون ضمانة على استمرارية الحوار الوطني الهادف لتجاوز عقلية الحكم الفردي وتجربة الماضي، لحين الانتهاء من كافة المراحل التأسيسية المتعلقة بطبيعة النظام السياسي المطلوب باردة جامعة.
ومن العوامل الأخرى أيضاً: “دستور توافقي جديد”، يتم صياغته بمشاركة كافة القوى والتيارات السياسية، مع ضمانات لحقوق الأقليات والقوى المعارضة السابقة، وكذلك تحقيق متطلب “العدالة الانتقالية”، من خلال إنشاء هيئة عدالة انتقالية لمعالجة إرث الصراع، خاصة فيما يتعلق بملف المعتقلين واللاجئين وإعادة الحقوق المصادرة، وستعتمد هذه العملية على التوافق الداخلي ومدى استعداد قوى السلطة الحالية للتنازل لصالح المصالحة الوطنية الجامعة.
أما نموذج الحكم الأصلح، وليس الأمثل، للحالة السورية، فقد يكون النظام الرئاسي بصلاحيات محدودة للرئيس، مقابل برلمان قوي يتم انتخابه بحرية أكبر، هو أفضل الخيارات المطروحة، أو سيناريو اعتماد نموذج “شبه رئاسي”، بحيث يتم توزيع السلطة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وسلطة تشريعية رقابية مستقلة، لضمان التعددية السياسية.
الاستثمار والإصلاح وإعادة الإعمار المشروط
على الصعيد الاقتصادي وإعادة الإعمار، فلا بد أن هناك مصلحة وطنية بإدارة الموارد النفطية بشكل مشترك، فمناطق سيطرة “قسد” تحتوي على معظم الثروات النفطية السورية، ولذلك ستتم إعادة هيكلة قطاع النفط لضمان استفادة الدولة السورية، وقد يتم تشكيل هيئة مشتركة لإدارة عائدات النفط، مع تخصيص جزء من الإيرادات لتنمية مناطق شمال وشرق سوريا.
ولا بد من تشكيل هيئة وطنية لإعادة تأهيل البنية التحتية في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، وكذلك إطلاق مشاريع إعادة إعمار في المدن التي تضررت من الحرب، مثل الرقة ودير الزور والحسكة، وتحسين الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم بالتعاون بين الحكومة السورية والإدارة الذاتية الكردية.
ومن المهم منح حوافز استثمارية للشركات السورية والعالمية لتشجيع تنمية المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، وفتح المجال أمام الصين ودول الخليج لدعم مشاريع اقتصادية في شمال شرق سوريا.
ومن المؤكّد أن اعتماد سوريا على الاستثمار والتمويل الخارجي سيكون مشروطا بأدوار سياسية ومزايا اقتصادية، خاصة في ظل حاجة سوريا لتمويل إعادة الإعمار وتسريع وتيرة التنمية والإصلاح الاقتصادي وزيادة فرص العمل وتشغيل البطالة، لاسيما قطاعات الصناعة والزراعة.
ومن غير المرجح حدوث انتعاش سريع في قطاع النفط، نظراً لأن معظم الحقول الرئيسية تحت سيطرة “قسد” أو القوات الأمريكية.
إن معالجة الأزمة الإنسانية وملف النازحين واللاجئين من أكبر التحديات التي تواجه مستقبل سوريا، حيث يتطلب استقراراً أمنياً وسياسياً لاستعادتهم، والمطلوب تنفيذ برامج إعادة توطين تدريجية بتمويل دولي، مع تحفيزات اقتصادية لعودتهم.

المستقبل وشروط تنفيذ الاتفاق
قد يكون الاتفاق فرصة تاريخية لإنهاء الانقسام الداخلي، لكنه لن يكون سهل التطبيق بسبب العوامل الإقليمية والدولية المعقدة، ونجاحه يعتمد على قدرة القيادة السورية على تقديم تنازلات تكفل تحقيق الاستقرار، مع تحقيق توازن بين المطالب الكردية والمصالح الوطنية السورية.
ولا يمكن إغفال أن هناك قوى إقليمية ودولية مؤثرة، مثل روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة، ونجاح الاتفاق يعتمد على ضمان ألا يكون هناك تصادم بين هذه القوى، خاصة مع تركيا التي تعارض أي شكل من الاستقلال الكردي، وستظل التدخلات الإقليمية عاملاً معقداً في رسم المستقبل.
ونتوقع باستشراف المستقبل على المدى القصير (خلال ثلاث سنوات) أن يكون هناك استقرار نسبي مع استمرار المفاوضات السياسية، وتحديد ملامح النظام الجديد، وبدء إصلاحات اقتصادية تدريجية، فيما على المدى المتوسط، قد يتم ترسيخ شكل جديد للحكم يحقق توازناً بين المركزية واللامركزية، مع بداية تعافٍ اقتصادي محدود، خاصة إذا استمرت الإصلاحات السياسية والاقتصادية بنجاح.
بلا شك أن المرحلة القادمة تتطلب إدارة دقيقة ومتوازنة لتجنب الانزلاق مجدداً في الفوضى، والنجاح يعتمد على قدرة القيادة السورية على تحقيق توازن داخلي وخارجي مستدام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!