سوشيال ميديا أم مصحة عقلية
سوشيال ميديا أم مصحة عقلية
مثل هذه النماذج استوطنت شبكات التواصل الاجتماعي
تحول الجنرال “فاردينيو” إلى نجم شبكات التواصل الاجتماعي في الجزائر، ويحظى بأعداد هائلة من المتابعين والمعلقين، لكن الرجل المشحون بشوفينية وطنية زائدة مكانه أقرب إلى أيّ مصحة عقلية، من مكان في السوشيال ميديا، إلا إذا تحولت الأخيرة إلى مستشفى كبير للأمراض العقلية.
ببدلته العسكرية التي استعارها من مصدر مجهول، والتي يحرّمها القانون، وبلسان يلوكه يمينا وشمالا، لأنه فقد جل أسنانه، يخوض فاردينيو، في نزاع سياسي عسكري أمني بين الجزائر ومالي، ويظهر في ثوب البطل الثوري المتحمس، للانتقام ممن أساء لبلاده.
شهرة الجنرال المجنون تعدت حدود البلاد، بعدما أخذته وسائل إعلام مالية مأخذ الجد، وصارت تستشهد بتصريحاته على التهديدات والأخطار التي تحدق ببلدها من طرف الجار الشمالي، وفي هذه اقتربت تلك المنصات في جنونها من جنون فاردينيو، بعدما صدّقت مظهره وكلامه وحركاته.
مثل هذه النماذج استوطنت شبكات التواصل الاجتماعي، وصار جنونها مصدرا للترفيه عن النفس والهروب من اليوميات الثقيلة، لكنها في نفس الوقت تثير الحزن والأسف على التفاهة التي استحوذت على وسائل يمكن أن تكون أكثر جدوى ومنفعة للمجتمع، لو تم استغلالها في ما يفيد البلاد والعباد.
لقد كان قبل فاردينيو، المدعو “مفتاح الروس”، المسجون حاليا في وهران، ليس لمحتوى صفحاته، بل لشكوى قريبة من الشخصنة قدمها ضده والي الولاية سابقا ووزير النقل حاليا سعيد سعيود، ومن شعاره يبرز حنينه إلى العقيدة الروسية بجيشها وسلاحها وترسانتها العسكرية، التي يتماهى فيها بأعجوبة وانسيابية ويجزم أنها المخلّص الوحيد للعالم.
لأسباب مختلفة ظهر العديد من مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي، على شاكلة “زكروط” و”شوشع”، لكنّ النجمين منخرطان بتفاهتهما في اهتمامات وقضايا مختلفة، عكس فاردينيو ومفتاح الروس، اللذين يهتمان بالشأن السياسي والإقليمي، إلى درجة تهديد قيادة الدولة المالية.
قد يقول قائل إن الاهتمام بالتفاهة هو تفاهة في حد ذاته، والأجدر تجاهلها كي تبقى في مكانها وسياقها، وذلك منطقي جدا، لكن التفاهة الآن تحولت إلى خطر يهدد المجتمع والدولة، وبات من الضروري دق أجراس الإنذار.
والمؤسسات التي لا يفوتها أيّ شيء يدب في شبكات التواصل الاجتماعي، وتتعامل بصرامة مع مختلف المحتويات، لا يجب أن يفوتها أمر أمثال فاردينيو ومفتاح الروس.. وغيرهما، لأنهما يسيئان بشدة للبلاد ويعبثان بقيم المجتمع، كالتطاول أو الخوض في مسائل جادة هي من اختصاص أهلها.
لا أحد وفّر للبشرية الديمقراطية وحرية التعبير، كما وفرته شبكات التواصل الاجتماعي، فالأمر صار متساويا بين صفحة لرئيس دولة وبين صفحة لأتفه “صايع” في المجتمع، ولأننا شعوب نلعب بالتكنولوجيا ولا ننتجها، تحولت هذه الفضاءات إلى مشاف كبيرة للأمراض العقلية، إلى درجة أن صار الأمر منفرا ومقززا.
منظرو هذه الفضاءات يهمهم الامتداد الأفقي والاستعمال الواسع، لأن عائداتها لا تتحقق من النخب بل من الشعبية، والعيب ليس فيها بقدر ما هو في مجتمعاتنا، وما فعلته أنها هتكت ستره وكشفت حقيقته، فانكشفت مختلف العوالم الخاصة والخفية للعلن، ولذلك نحن نعيش صدمة التعرف على أنفسنا.
كان بإمكان فاردينيو ومفتاح الروس، أن يعبّرا أو يعلّقا أو ينتقدا أيّ شيء، بما في ذلك الشأن العام والشأن السياسي، لكن أن يبنيا شهرتهما على جنون وأمام مرأى ومسمع الجميع، فذلك تواطؤ مريب على سمعة صورة بلد وشعب، ومكانهما هو أقرب مصحة عقلية، وإلا ما معنى سجن مدون كتب منشورا ناقدا، وترك مثل هؤلاء يسرحون ويمرحون دون وازع ولا رادع.
صابر بليدي
صحافي جزائري
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.