زيارة ماكرون: أوربا ترد على ترامب في ملف فلسطين – حاتم
عاد دونالد ترامب فجأة لاستكمال أجندته التي تركها منذ عام 2020م مع انتهاء ولايته الأولى، ليُبْرِز أزمة المسألة الأوربية القديمة بشدة، وتَفَكك قدرتها على الحفاظ على تناقضاتها الداخلية، ووهم أنها الحضارة المطلقة والعظمي والنهائية للوجود البشري.
وحقيقة يتابع المرء كتابات العديد من “المتخصصين” في السياسات الدولية بالوطن العربي عموما وداخل مصر خصوصا، واستغراق بعضهم في التفاصيل الجزئية ومحاولة الاختباء خلف بعض التنظيرات الفرعية التي مررتها المراكز البحثية الغربية في فترة معينة، لكي يبرر بها البعض تصورات التبعية والهزيمة الحضارية في دول العالم الثالث.. لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو تجرأ بعضهم على السيناريوهات المستقبلية دون دليل وبيقين شبه تام، وعدم اعتذاره –أو اعتزاله- حينما يخيب ظنه وتوقعه تماما.
بيت القصيد؛ وحين نعود لدونالد ترامب سنجد أنه قرر أن يقلب الطاولة فجاة على رؤوس الجميع، ساعيا لتهدئة الملف الأوكراني والتقارب مع روسيا، وذلك على حساب أوكرانيا (وطلبه المقابل منهم فيما عرف باتفاقية المعادن)، وعلى حساب أوربا التي لم يهتم دونالد ترامب بالحفاظ على ماء وجهها في مواجهة روسيا.. مما دفع فرنسا وألمانيا تحديدا لإجراءات عدة على المستوى العسكري قصير وطويل المدى.
وسعى ترامب للتصعيد في الملف الفلسطيني على حساب العرب، والملف التايواني على حساب الصين، فدفع بتعزيزات في بحر الصين الجنوبي وتفاهمات مع الفلبين أزعجت الصين، وقدم عدة صفقات وتعزيزات عسكرية إلى دولة الاحتلال حتى تتمكن من شن حملتها العسكرية المدمرة باتجاه غ*ز*ة، وتخرق اتفاق وقف النار والانتقال لمرحلتيه الثانية والثالثة.
ولم يهدأ بال ترامب عند هذا الحد بل استعاد ذاكرة الحرب التجارية التي أشعلها مع الصين في ولايته الأولى، لكنه قرر هذه المرة أن تكون الحرب ضد الجميع الحلفاء قبل الخصوم والمنافسين، ضد أوربا والعرب والصين ولم يترك أحد تقريبا سوى ورسيا عدو الأمس التي يسعى لمهادنتها.
وكانت أوربا -من خلال فرنسا وألمانيا تحديدا- قد سعت لحفظ ماء الوجه من خلال عدة إجراءات، فرنسا بوصفها الدولة الأوربية النووية الوحيدة داخل الاتحاد الأوربي بعد أن دفع ترامب بريطانيا في ولايته الأولى للخروج من الاتحاد الأوربي فيما عرف بالبريكست، قد سعت –فرنسا- لعدة إجراءات لحفظ ماء وجه القارة العجوز عن طريق التلويح بالمظلة النووية وجعلها غطاء أوربيا أمميا ضد روسيا، وزادت ألمانيا من تصريحات عودتها إلى التسليح الكثيف وزيادة الإنفاق الدفاعي بطريقة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية…
لكن كل هذه الإجراءات كانت مجرد رد فعل لحفظ ماء الوجه في الملف الأوكراني، إنما الحرب التجارية الجديدة التي شنها ترامب كانت هي الشاهد الأخير في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي جعلت أوربا تستيقظ فجأة وتبحث عن طرق جديدة لردع ترامب.
هنا استعاد “الديك الفرنسي” ذاكرته القديمة في عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية، تحديدا في المرحلة الاستعمارية حينما كانت فرنسا امبراطورية تتنافس مع بريطانيا على الهيمنة على العالم… قرر ماكرون أن يقفز إلى ساحة السياسة الدولية ليردع دونالد ترامب في أقرب الملفات إلى نفسه وذاكرته الدينية العنصرية، وهو ملف فلسطين.
لم تعد هناك أوراق في يد اوربا لتردع بها ترامب في مشروعه الجديد لاستعادة الهيمنة عبر “الصدام” (ولنتذكر هنا نظريات الصدام الحضاري عند الثلاثة برنارد لويس وهينتنجتون وفوكوياما).. سوى الخروج مجددا إلى ما وراء البحار، والضغط على ترامب في ملفه المفضل ومشروعه المسمى “صفقة القرن” و”الاتفاقيات الإبراهيمية” في نسخته الخشنة الجديدة التي تجرى حاليا.
قرر ماكرون أن يبادر ترامب في عقر ملفه الأقرب إلى نفسه في فلسطين، واختار أن تكون مصر هي موضع النزال بينه وبين ترامب، فجاء في زيارة مطولة تمتد إلى ثلاثة أيام، تتواكب تقريبا مع ذهاب نتانياهو إلى أمريكا، ويتخلل الزيارة قمة ثلاثية بين قادة فرنسا ومصر والأردن (خرجت ببيان مشترك على النقيض تماما من مخططات ترامب)، وشملت الزيارة تصريحات عن تعاون عسكري واقتصادي وسياسي وشراكة استراتيجية مع مصر، قرر “الديك الفرنسي” تذكير ترامب بأن فرنسا هي امبراطورية قديمة قبل أن تخرج أمريكا للوجود.
وتناول ماكرون الوضع في فلسطين وغ*ز*ة والتهدئة وأدان الحملة العسكرية “الإ*سر*ائي*لية”، ويتأهب لزيارة حدودية في اليوم الثالث لزيارته يوم الثلاثاء 8 أبريل 2025م، رفع ماكرون السقف لأقصاه في مواجهة ترامب، وفي أقرب الملفات التي يمارس فيها شعوره بالوهم الامبراطوري والمسألة الأوربية القديمة، ليضطر ترامب للاتصال به وبالرئيس المصري والملك الأردني محاولا تهدئة “الديك الفرنسي” وغضبته…
مربط الفرس هنا أن النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية أصبح يتفكك على مستوى حلفاء الأمس أنفسهم، وليس في مواجهة الخصوم فقط… والدرس الممكن الاعتبار منه في عجالة أن الذات العربية والمدرسة المصرية في السياسات الخارجية متأخرة على مستوى النظرية السياسية والسردية الجيوثقافية بعشرات السنين، تتحرك وفق تكتيكات للعمل من خلال التناقضات والظروف المتاحة، لكن دون سردية جيوثقافية فاعلة تستبق التغيرات السريعة.
وعلى المستوى القريب؛ هل يمكن الوثوق في ماكرون أو في ترامب أو في غيرهما، في حقيقة الأمر تحتاج مصر إلى نظرية سياسية جديدة على مستوى السياسات الخارجية، ولا يمكن لها ان تعمل من خلال العمل التكتيكي أو استدعاء بعض الآليات من العهد الناصري، ولا يمكن لها أن تكون رد فعل للتقلبات الدولية وتوزناتها، إنما تحتاج مصر لإعادة قراءة معطياتها الجيوثقافية وترتيب أوراقها من جديد.
هل هناك خطوة أخرى يمكن أن تحدث فجاة في رقعة السياسات الدولية الجديدة؟ نعم هناك ورقة أخرى قد يحتفظ بها “الديك الفرنسي” في مواجهة ترامب، وهذه الورقة لو طرحها ماكرون سوف تكون بمثابة زلزال لنظرية دونالد ترامب السياسية برمتها، وهي ورقة الصين…
لو لم يرتدع دونالد ترامب ويتراجع عن أوهامه السياسية ومشروع الصدام الحضاري باتجاه الحلفاء في اوربا، فقد لا يكون أمام الديك الفرنسي ممثل القارة العجوز سوى ورقة شديدة القوة، وهي أن يزور الصين أو ان يعقد معها اتفاقية تجارية كبرى..
لتبقى الفترة المقبلة تحمل للعالم الكثير من المتغيرات والتقلبات، وتحمل للعرب درسا أليما مفاده أن الانسداد السياسي الذي نشأ بعد مرحلة الثورات العربية، وتسببت فيه سرديات السلطة والمعارضة على السواء، وعجزهما عن تقديم سردية جديدة للشعوب العربية، هذا الانسداد أصبح لابد من تجاوزه وظهور سردية جديدة، وأن تمترس كل فصيل سياسي سلطة أو معارضة حول سرديته، سيؤدي إلى التفكك التام إن عاجلا أو آجلا… لكن يبقى الأمل دوما في “كتلة جامعة” تشق التناقضات وتؤكد على المشتركات الحاضرة في “مستودع الهوية” العربي، تواجه التحديات الدولية ومتغيراتها، وتعرف جيدا كيف ترصف الطريق للمستقبل.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.