حروب بلا رصاص: الإعلام في زمن الخوارزميات والواقع المزيف –
في العقود الأخيرة، أفضت التحولات التقنية العميقة إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الإعلام والصراعات بطريقة غير مسبوقة، حيث لم تعد وسائل الإعلام مجرد ناقل للخبر أو وسيط بين الحدث والمتلقي، بل أصبحت لاعبًا رئيسيًا ومؤثرًا جوهريًا في مسار الأزمات وبنية الخطاب حولها. ومع بروز التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والواقع المعزز، وتقنيات البلوك تشين، والخوارزميات الذكية، وأدوات تحليل البيانات الضخمة، تغيّر وجه الإعلام المعاصر من وسيلة تقليدية إلى منظومة رقمية معقدة قادرة على التأثير في الرأي العام، وصناعة السرديات، بل والتلاعب بالحقائق في خضم الصراعات الجيوسياسية والعرقية والثقافية.
لقد أصبح الإعلام في ظل هذه التقنيات أكثر من مجرد قناة للتواصل؛ إنه ساحة صراع بحد ذاته، تُخاض فيها حروب ناعمة بأدوات رقمية، وتُخترق بها العقول قبل الحدود. فالذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، بات يُستخدم في توليد الأخبار الزائفة وصناعة الفيديوهات المزيفة (Deepfakes)، مما يساهم في تشويه الوقائع وتعزيز خطاب الكراهية والانقسام في المجتمعات، خصوصًا في بيئات النزاع الهشة. كما تلعب الخوارزميات دورًا خفيًا لكن بالغ التأثير في ترويج محتوى معين وتضييق الخناق على أصوات أخرى، مما يعيد تشكيل الإدراك العام وفق أولويات شركات التكنولوجيا أو القوى السياسية المسيطرة.
وفي خضم الحروب والصراعات، أصبح الإعلام الرقمي أداة فعالة في التعبئة السياسية والدعائية، حيث تُستخدم المنصات الاجتماعية لنشر السرديات الرسمية، أو لكسر احتكار الدولة للمعلومة، أو حتى لإثارة الفوضى وإرباك الخصم. ويمكن ملاحظة هذا التحول في نماذج مثل الصراع الروسي-الأوكراني، أو الحروب في سوريا واليمن، حيث أصبحت البيانات والمقاطع المصورة والشهادات الحية سلاحًا بيد كل طرف، تُدار وتُوجّه من خلال تقنيات متقدمة لضمان أقصى تأثير على المتلقي المحلي والعالمي. وهنا، تتجاوز المسألة مجرد تقديم تغطية إعلامية إلى ممارسة ضغط سياسي ونفسي، بل إلى استخدام المعلومات كسلاح حربي.
كما أتاح تطور تكنولوجيا الاتصال إمكانية وصول المواطنين العاديين إلى أدوار إعلامية غير مسبوقة، إذ تحوّل الهاتف الذكي إلى أداة توثيق ونقل وصناعة للرأي العام. لكن هذا التمكين الرقمي لم يخلُ من الإشكاليات، فقد تزامن مع صعود “فوضى المعلومات” والانفجار غير المنضبط في المحتوى، ما جعل الحقيقة ذاتها محل شك دائم، وأضعف من قدرة الجمهور على التمييز بين ما هو صادق وما هو مصطنع. وهنا تتجلى الحاجة إلى أدوات تحقق رقمية و”صحافة تحقق” قائمة على التحقق من صحة الصور والمصادر والأرقام، في مقابل تنامي ظاهرة “الإعلام المؤدلج رقميًا”.
في الوقت ذاته، فتحت التقنيات الناشئة الباب أمام إمكانيات جديدة لصحافة السلام وبناء سرديات بديلة تحفّز على التفاهم والحوار بدل الاستقطاب والعداء. فمن خلال الواقع الافتراضي، مثلًا، أصبح بالإمكان نقل الجمهور إلى قلب الأزمة بطريقة تفاعلية تحفز على التقمص الوجداني والتعاطف، ما يسهم في إعادة صياغة العلاقة بين المتلقي والحدث الإنساني. كما أتاحت تقنيات الذكاء الاصطناعي إمكانيات تحليل عميق للخطابات الإعلامية، وكشف التحيزات، وفهم الديناميكيات الخفية التي تغذي العن*ف الرمزي والمباشر.
في المحصلة، فإن تأثير التقنيات الناشئة على الإعلام والصراعات ليس تأثيرًا خطيًا أو أحادي البعد، بل هو جدلي ومعقد، يُعيد تشكيل مفهوم الحقيقة، ويعيد تعريف أدوار الفاعلين، ويضع العالم أمام تحديات أخلاقية وسياسية هائلة. فالإعلام المعاصر لم يعد فقط ناقلًا للخبر، بل أصبح جزءًا من معادلة الصراع نفسها، وفي أحيان كثيرة، نقطة تفجير له أو مساحة نادرة لإعادة ترميمه، وذلك وفقًا لكيفية توظيف التكنولوجيا ووعي المستخدمين بها. وهذا ما يفرض على الباحثين والممارسين ضرورة إعادة التفكير في أخلاقيات الإعلام، وفي طبيعة البنية الرقمية التي تشكل الإدراك الجمعي في زمن الأزمات، حتى لا تتحول التكنولوجيا من أداة تحرير إلى وسيلة إخضاع جديدة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.