الكتابات الهابطة/ تحليل نفسي اجتماعي
الكتابات الهابطة
تحليل نفسي اجتماعي
د. عبدالله رابي
أصبح معروفاً عن وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الأجهزة الاتصالية المتقدمة اليوم، انها تحمل بعدين في تأثيرها على مجمل القضايا المجتمعية والفردية، الإيجابي والسلبي، سلبياً، ارتفعت نسبة المروجين للمواد الرديئة المنشورة بمختلف أنواعها لإتاحة الفرصة لكافة افراد المجتمع على كل المستويات الثقافية والفكرية، ولا تختلف الكتابات الهابطة عن الفيديوهات والصور الهابطة والرثة التي باتت هواية للبعض لتفريغ مكنوناتهم النفسية غير الطبيعية. وقد أصبحت هذه المنشورات ميداناً مهما للباحثين للتعرف على الحالة الشخصية والنفسية لأصحابها من خلال تحليلها، والاستفادة العلمية من نتائجها وتعميمها.
الكتابات الهابطة، (هي تلك المنشورات التي تحمل في طياتها كلمات وعبارات تافهة شائنة مخلة بالآداب والذوق السليم بحق الاخرين، كالشتيمة والقذف والتشهير والاهانة والاستهتار للانتقاص منهم والنيل من سمعتهم). تختلف عن النقد الذي يعتمد على الحجج المنطقية ويتفادى أية إساءة لشخصية الاخر. وتختلف عن الاعلام الساخر الذي يتناول المواضيع العامة وفق أسس تشويقية، كما انها لا تدخل قانونيا ضمن سياق حرية التعبير عن الراي بحسب مبادئ حقوق الانسان، بل هي انتهاك صريح لها وتعبير عن السلوك المنحرف.
نتوقع مثل هذه الكتابات من اشخاص ذوي ثقافة غير تخصصية، او قد اكتسبها بخبرته الشخصية الحياتية، بدليل الإخفاق في استخدام المفاهيم، او النقل عن ما أُتيح له من قراءته للكتب واقتباس كلمات من هنا وهناك تعبر عن مبتغاه، كما تبدو ضحالة ثقافته واضحةً في عدم استيعابه لما يكتبْ من قبل الاخرين وعدم التمييز بين الكاتب الباحث المختص والكاتب العابر العادي. كما نلاحظ الإدمان على هكذا كتابات بعض المتدينين، وبل عند بعض ممن يقلد مراتب مختلفة ومنها عليا في المؤسسة الدينية، ومثلهم السياسيين، ومن لهم ميول سياسية في تصرفاتهم مع الاخرين، ويظهر أحياناً دافع النزعة القروية والقرابية في كتاباتهم.
تبين من دراستي وتحليلي لنماذج متعددة من الكتابات الهابطة في وسائل التواصل الاجتماعي، بانها لا تعكس الا نمط الشخصية المتوترة والمحبطة لأصحابها وفقاً للتحليل النفسي والاجتماعي، كما يأتي:
تتجاذب مع بعضها الميول العدوانية والغيرة والنرجسية وحب التسلط والايذاء التي تحملها شخصية صاحب الكتابات الهابطة فطرياً مع خبراته الحياتية عبر مراحله العمرية التي تتراكم كعقدٍ نفسية لتكون مجتمعة شخصية غير مستقرة تعاني من سوء التكيف الاجتماعي، فينتهز فرصاً معينة لاستغلال وسائل التواصل الاجتماعي لتفريغ انفعالاته، والا ما هي المناسبة من استخدام هكذا وسيلة تجاه الاخر الذي لم يذكره بسوء يوم من الأيام، بل لمجرد انه لم يستوعب ما صدر عنه من كتابات!
تتكون العقد النفسية لتفاعل عدة مواقف يتعرض الانسان اليها منذ الصغر بسبب التنشئة الخاطئة ويتقبلها الفرد وينفذها خائفاً، منها مثلاً: الاجبار على الاستمرار في الدراسة بحسب رغبة الوالدين، الالتزام الشديد بالقيم الدينية، مواقف التهديد مثل، تلويح الكي بالنار، المنع من الطعام، عقوبة الحبس في البيت، عقوبة الضرب المقنن الاستيقاظ المبكر قسراً، الحرمان من الحياة الطفولية والمراهقة المعتادة عند اقرانه لعدم اشباع حاجاته، وغالباً ما تظهر عند أبناء الاسر غير المتمكنة اقتصادياً والمتدينة، أو المنخرط منذ طفولته في المعاهد الدينية، تعرض الفرد منذ طفولته الى التخويف بتعبئة اذهانه في المغالاة بصور الجن والأشباح اومصيره الجهنم او تخيلات أخرى، ظناً من الوالدين انه يهدأ ويستقر.
تؤدي الخبرات المذكورة الى الحرمان العاطفي الذي بدوره يعرض الفرد الى القلق والتوتر الشخصي الشديدين، وترسيخ عقداً نفسية، منها عقدة الخوف، عقدة الكذب، حيث يدرك تماماً انه لا يذكر الحقيقة عن الشخص المقصود والهروب من المواجهة، عقدة العن*ف والعدوان، عقدة الشعور بالنقص. عقدة الغيرة المفرطة. عقدة التسلط والعظمة. وتعد محتويات كتاباته مؤشرات واعراض هذه العقد النفسية من الالفاظ السيئة والاستهتار والتشويه والسخرية من إمكانات المقصود وتعظيم الذات والمراوغة وكثيرا ما تكون موجهة نحو من هو أفضل منه سيرةً وثقافةً وعلماً وقبولاً في المجتمع.
يلجأ الفرد الى وسائل دفاعية نفسية من خلال العقل الباطني التي تتجمع هذه المكنونات النفسية فيه ويطلقها عبر تلك الوسائل بصورة لا شعورية، هدفها التلاعب بالأفكار والتحايل على العواطف بتشويه الواقع لأجل خفض التوتر النفسي عنده. ومن اهم هذه الوسائل هي:
التبرير: تعد حالة لاشعورية يعطي الفرد اسباباً وهمية لأفعاله تبريراً لفشله، فغالباً ما يكون صاحب الكتابات الهابطة فاشلاً في تحقيق أهدافه، فيلجأ لهذه الأساليب.
الازاحة: توجيه الانفعالات والغرائز غير المقبولة نحو اشخاص آخرين نتيجة فشله.
الاسقاط: ينسب الفرد هنا سماته الذاتية ورغباته الى اشخاص آخرين او موضوعات معينة، منها، وقد تكون هجومية واتهامات وهمية لا أساس لها من الصحة لتبرئة نفسه.
التعويض: يتصرف شفاهة او كتابة او عملياً، لإنجاز احداث او موضوعات لتغطية جوانب الضعف عنده. وعليه يحاول أثارة الاخرين فيما يكتبه لتوجيه الأنظار اليه، كأنما في حسابته حقق بطولات وشجاعة، وفي الواقع انها وهمية.
النكوص: رجوع الفرد في تصرفاته الى مرحلة سابقة من عمره، فهو بالغ على سبيل المثال، ولكن يتصرف تصرف المراهقين، مثل التهيج الانفعالي او الغضب، والسلوك غير المتزن دون مبرر يُذكر.
التماهي: يحاول الاندماج والتقارب مع أشخاص مشهورين لمجرد انه لا يتمكن من صنع تلك الشهرة بنفسه، ويزيده من هذه الحالة عندما يتقبل افعاله الشخص الذي يمتثل اليه.
لجوء الفرد الى الكتابات الهابطة، هو تعبير عن الحالة النفسية التي يعاني منها فيستخدمها كوسيلة لتنفيذ الآليات الدفاعية النفسية المار ذكرها، اي المحتوى المبتذل لها يعبر عن فقدان التوازن في الشخصية، والتفريغ عن القلق الذي يعانيه للأسباب المذكورة آنفاً، وتعبر عن ثقافة متردية تفقد مقومات الثقافة المألوفة عند الأكثرية، التخبط والضياع وعدم الاستقرار النفسي، انهيار منظومة القيم عنده، تجاوزات وانحدار في الذوق العام. التخبط في علاقاته الاجتماعية، وهو ضحية مجتمع مغلق يفرض على افراده قواعد قيمية صارمة منبعها الدين بالدرجة الأساس خوفاً من المستقبل، فغالباً ما يُشخص عنده تقديس لرجل الدين وعبادته ووضع خطوط حمراء لا يمكن الاخرين تجاوزها، لعدم اتزان الشخصية، يفقد الخجل الاجتماعي فيطلق هكذا كتابات في الاعلام المفتوح. فإذن هكذا تصرفات في الأفعال او الكتابة ما هي الا انعكاس لمكنوناته النفسية، فيسكبها بإطلاقها على غيره للتنفيس والارتياح والتعويض النفسي.
هكذا شخص بحاجة الى التبصير من قبل الاختصاصيين، لكونهم سبباً لمشاكل اجتماعية، اذ لا يمكن الفرد ان يشعر بما يفعله للتبريرات الوهمية التي يخلقها لنفسه ومحاولته دائما إضفاء اللامعقول على المعقول في تصرفاته. والاهم والأفضل اهمال هكذا نماذج من الأشخاص لتجنب منحهم أهمية تُذكر، فلا يُرد بالمثل ليتحاشى النزول لمستواهم المتوتر والسلوكي.