مقالات

الرد التطوري العلمي على المزاعم حول الأعضاء الأثرية؛ هل ضرس

عانت أسلافنا الأوائل (مثل الـ Australopithecus وHomo habilis) من حميات غذائية قاسية اعتمدت على أطعمة خامة وطرق طبخ بدائية. لذا كان لدى البشر الأوائل فكوك أوسع وأسنان أكثر، شملت أربعة أضراس ضحى (موليارات) في كل ركن، بما في ذلك أضراس العقل الثالثة وظيفتها الأصلية كانت مضغ الأطعمة الصعبة (لحوم نيئة وجذور صلبة) ومع تحوّل النظام الغذائي البشري نحو الأطعمة الطرية والمهروسة بعد الثورة الزراعية والصناعية، تراجعت الحاجة إلى هذه الأضراس الإضافية، وتقلّص حجم الفكين البشري، يعتبر ضرس العقل أثريًا (vestigial) لأن نسبة كبيرة من البشر لا تطور هذا الضرس أو يصاب بعدم انفراجه بسبب ضيق الفك. فمثلاً لوحظ أن حوالي 80% من الشباب البالغين يعانون من ضرس عقل غير منفجر في الفك. وهو آخر الأسنان التي تنمو في الفكين، ويظهر عادة بين سن 17-25 عامًا. في المجتمعات الحديثة، وكثير من الأفراد لا يظهر لديهم، أو يظهر بصورة معوجة أو ناقصة، أو يظل مطمورًا تحت اللثة.

علميًا، يعتبر هذا الضرس من الأعضاء الأثرية (Vestigial structures) — وهي بقايا تطورية لأعضاء كانت لها وظيفة بارزة في أسلاف الإنسان، لكنها فقدت وظيفتها أو أهميتها بمرور الزمن. بالتالي فإن “فقدانه” لا يسبب أعراضًا كبرى، ولم يعد مهماً للفئة العظمى. مع ذلك، يمكن أن يؤدي في بعض الحالات المتبقية إلى مضاعفات (التهاب، ضغط على الأسنان المجاورة) عند امتلاء الفك.

إلا إنه يزعم البعض أنّ اكتشاف وظيفة محدودة لضرس العقل (مثل مساعدته أحيانًا في المضغ) ينفي كونه أثريًا. هذا غير صحيح علميًا. فالأعضاء الأثرية قد تكتسب وظائف ثانوية جديدة دون أن تتناقض مع أصلها التطوري ، فإن وجود ضرس العقل ومساعدته المحدودة في المضغ لا يلغي أنه في معظم البشر لم يعد ضروريًا أو أن حجمه يتراجع. فالدراسات الحديثة تصنّفه على أنه بقايا تطورية لأن معظم الناس يتخلّصون منه (جراحيًا) أو لا يظهرة على الإطلاق، كما توجد نسبة عالية لأشخاص لا يولدون بضرس عقل (حوالي 10–40% باختلاف المجموعات) تدل أيضًا على تراجع تطوري لهذا الضرس.

فضرس العقل (third molar) ليس بلا وظيفة من حيث المبدأ، لكن يُعتبر من الأعضاء الأثرية لأنه فقد وظيفته الأصلية أو أصبح غير ملائم بيولوجيًا في عدد كبير من السكان.(1)

وكما ذكرنا سالفاً أن أسلاف البشر (مثل Australopithecus وHomo habilis) كانوا يملكون فكوكًا أكبر وأسنانًا أكبر وأكثر، تتكيف مع نظام غذائي نباتي خشن يتطلب مضغًا قويًا. ضرس العقل كان يؤدي دورًا فعالًا حينها. لكن مع تطور Homo sapiens وتغير النظام الغذائي والبيئة، تقلص حجم الفك نسبيًا، بينما بقي ضرس العقل يظهر في نفس الوقت من النمو.

إذن: ضرس العقل ليس “بلا وظيفة مطلقًا”، لكنه أصبح عديم الفائدة أو مسببًا للمشاكل في سياق التطور الحديث.

ولكن هل المشاكل مع ضرس العقل سببها “فكر التطور” أم النظام الغذائي الحديث فقط؟ كما يدعي البعض أن السبب هو النظام اللين ؟!

في الواقع العلمي؛ بالفعل توجد علاقة بين النظام الغذائي وحجم الفك، لكن ذلك لا ينفي أن ضرس العقل في كثير من البشر يسبب مشاكل بسبب عدم التوافق التشريحي بين حجمه وموقعه وحجم الفك الحالي. (2) بل وحتى في المجتمعات ذات الغذاء الخشن، نسبة عدم بزوغ ضرس العقل أو انحشاره (impaction) تبقى موجودة، وإن كانت أقل.

فالادعاء بأن ضرس العقل ليس مشكلة في الشعوب التي تعتمد على أغذية خشنة، بل فقط في الغرب الحديث بسبب “الطعام الطري” هو صحيح جزئيًا لكنه لا ينفي كونه أثرًا تطوريًا.

نعم، نوع الغذاء يؤثر على نمو الفك؛ فالأطفال الذين يمضغون أطعمة خشنة يطورون فكًا أكبر، ما يزيد فرصة ظهور ضرس العقل بشكل سليم،.
لكن…

هذا ليس دليلاً ضد كونه أثرًا تطوريًا، بل هو تأثير بيئي (Environmental modulation) على تعبير سمة أثرية. فدراسات الطب الشرعي والأسنان القديمة تؤكد أن أسلافنا البعيدين (مثل Homo erectus و Australopithecus) كانت لديهم فكوك أوسع وأسنـان أكثر تناسقًا، لكن تقلّص حجم الفك عند الإنسان الحديث (Homo sapiens) أدى إلى فقدان المساحة الكافية للضرس الثالث.(3)

فالفك تقلص بسبب تغيرات غذائية وثقافية، لكن الجينات التي تُنتج ضرس العقل لا تزال موجودة، لأنها لم تُمحَ بعد بالكامل — وهذا بالضبط ما تعنيه كلمة “عضو أثري”.

إذن: تغير النظام الغذائي ساهم جزئيًا، لكن التطور التشريحي للفك نتيجة الضغوط التطورية على مدار آلاف السنين هو العامل الأعمق، وبالتالي وبالتالي لا غبار على الاستشهاد بعينات من المصريين أو النوبيين أو غيرهم، لكن هذه دراسات حالات (case studies) وليست أدلة عامة على “إبطال” البيولوجيا التطورية.

كما إن القول بأن ضرس العقل مفيد في المضغ، ويجب الاحتفاظ به إن لم يسبب مشكلة. هو صحيح جزئيًا، ولكن السياق مهم جدًا أي إذا نبت الضرس بوضع سليم، يمكنه المساعدة في المضغ. لكن نسبة ظهور ضرس العقل بشكل غير سليم عالية جدًا، خصوصًا في المجتمعات الحديثة:
• في دراسة أمريكية: أكثر من 85% من الناس يحتاجون لخلعه.
• في دراسات أوروبية: حوالي 72% من الضروس الثالثة تعاني من مشاكل نمو أو ميلان أو احتباس.(4)

ولكن هل يُعد حجم فك الإنسان الحديث دليل على “تدهور” وليس تطور، كما يدعي البعض ؟!
—————————————————————————————–
والجواب هو إن هذا خلط شائع؛ فعلم التطور لا يعني دائمًا “التعقيد المتزايد”، بل الملاءمة البيئية. فتقليص حجم الفك ليس “تدهورًا”، بل تكيف بيولوجي مع:
– نظام غذائي أكثر تنوعًا وأسهل مضغًا
– اعتماد على أدوات الطبخ والقطع
– تطور اللغة (بعض الفرضيات تشير لتأثيرها على شكل الجمجمة والفك) (5)

فالانتقاء الطبيعي لا يختار “الأفضل تصميمًا” بل يختار ما يكفي للبقاء والتكاثر في بيئة معينة. ومع تغيّر البيئة والسلوك، لا تعود بعض السمات مفيدة. وفي هذه الحالة: فإن تطور اللغة والطبخ والأدوات خفف الحاجة إلى مضغ قاسٍ. وبالتالي فإن صغر الفك لم يمنع البشر من البقاء أو النجاح التطوري، بل العكس.(6)

لكن ماذا عن الادعاء بأن الفك في “لوسي” (Australopithecus) لا يختلف عن الإنسان الحديث؟
———————————————————————————————–
والجواب هو إن هذا الادعاء غير دقيق ومخالف تمامًا لكل السجلات الأحفورية.

فــالأسترالوبيثكس Australopithecus afarensis (مثل “لوسي”) كان له:
– فك أعرض وأكثر بروزًا (Prognathic jaw) فــ Australopithecus afarensis (مثل “لوسي”) كان لها فك سفلي أكبر عرضًا وأطول أماميًا، وكان يمتد للأمام بشكل واضح.
– الفك العلوي والسفلي كانا أكثر بروزًا (prognathism) من الإنسان الحديث، أي أن الفم كان “يدفع للأمام”، بخلاف الشكل المسطح تقريبا لفك Homo sapiens.(7)
– ضروس أكبر نسبيًا، فالأسنان الخلفية عند أسترالوبيثكس أكبر من الإنسان، لا مساوية له، فكما تُشير الدراسات إلى أن الأضراس (molars) والضواحك (premolars) عند Australopithecus كانت أعرض بنسبة تصل إلى 30–40% من أسنان الإنسان الحديث. هذه الأسنان الضخمة كانت ضرورية لطحن الغذاء النباتي القاسي غير المطبوخ. (8)
– مساحة كافية للضرس الثالث (9)
– كما إن نسبة حجم السن إلى الفك مختلفة بشكل واضح بين أسترالوبيثكس والإنسان الحديث:
ففي A. afarensis: الفك كبير والأسنان كبيرة — نسبة حجم السن للفك = عالية.
في حين الفلك في Homo sapiens أصغر نسبيًا، والأسنان أصغر — نسبة حجم السن للفك = أقل.
إذًا، القول إن “النسبة نفسها” خاطئ تمامًا. بل الحقيقة أن هناك فرقًا ملحوظًا في النسبة وفي شكل الفك والأسنان.

وبالتالي فإن المقارنة بين فك “لوسي” وفك الإنسان الحديث تدعم التطور، لا تنفيه.

أما عن إدعاء هل “صِغَر الفك” لدى الإنسان الحديث يُفترض أنه عيب ضد الانتقاء الطبيعي؟
—————————————————————————————–
حيث يتسألون إنه إن “كان التطور قاد إلى فك أصغر فيه مشاكل في ضرس العقل تصل للوفاة، لماذا ‘تختار الطبيعة’ إنسانًا أضعف من أجداده؟ أليس هذا تدهورًا؟”

ولكن هناك مغالطتين أساسيتين هما:
======================
1. مغالطة “الطبيعة تختار الأفضل تصميمًا دائمًا”

فالتطور لا “يختار” الأفضل من حيث المثالية، بل:

“السمات التي تنتقل عبر الأجيال هي فقط تلك التي تسمح للبقاء والتكاثر، حتى إن كانت بعيدة عن المثالية أو تخلق مشاكل في ظروف معينة.”

كما إن الفك الأصغر لم يمنع بقاء الإنسان وتكاثره، بل ارتبط بتحولات مفصلية مثلما أوضحنا سابقاً مثل ظهور اللغة والكلام: الفك الأقصر والوجه المسطح وفك الحنجرة نَفَعَ في إنتاج أصوات معقدة. بالإضافة إلى الطبخ منذ 1.5 مليون سنة، قلّت الحاجة للمضغ الشديد بفضل النار. والزراعة ثم الصناعة الغذائية: أسهمت في جعل المضغ الشديد أقل ضرورة. لذا، فإن صغر الفك ليس “تدهورًا” بل تكيفًا بيئيًا وثقافيًا.

2. مغالطة أن وجود مشاكل في ضرس العقل = فشل تطوري
================================
وهذا قياس خاطئ؛ فالتطور لا يلغي السمات فورًا عندما تصبح غير نافعة. بل:
– بعض السمات تُبقيها الجينات حتى لو لم تعد مفيدة، طالما لا تُعوق التكاثر بشكل كبير.
– ضرس العقل لا يمنع التكاثر لدى الإنسان، حتى لو سبب مشاكل لاحقًا في الحياة.(10)
– فضرس العقل مثال كلاسيكي على سمة أثرية بقيت بسبب عدم وجود ضغط انتقائي قوي لإزالتها من الجينوم البشري.

وبالتالي فإننا لا نقول بأن هل فك القردة “أفضل” من فك الإنسان؟ وأن فلك الأنسان في حالة لأن كلمة “أفضل” تعتمد على البيئة والوظيفة، فكما أن القردة تحتاج لمضغ مكثف (فاكهة نيئة، لحاء، أوراق) ⇒ فكها الكبير والأسنان القوية مناسبة بيئيًا لها. فالإنسان يطبخ الطعام ويستخدم أدوات ⇒ لا يحتاج لفك كبير ولا لمضغ مستمر. إذًا: كل كائن “أفضل” فقط في بيئته وسياقه. والمقارنة بينهما خارج هذا السياق ليست منطقية تطوريًا. (11)

وكذلك إدعاء أن قلة فترة الرضاعة تسبب مشاكل في الفك وضرس العقل، وأن خلع الضرس يؤدي لانحناءات في العمود الفقري.

فالرد هو أنه لا توجد أدلة بحثية قوية أو منشورة في دوريات محكّمة (peer-reviewed) تدعم هذه الروابط بشكل سببي. بالفعل توجد دراسات عن تأثيرات المضغ المبكر على نمو الفك، لكن العلاقة مع الرضاعة أو العمود الفقري ضعيفة وغير مثبتة تجريبيًا.(12)

وأخيراً هل ضرس العقل يساعد على استقامة الأسنان ودعم المولار الثاني؟
———————————————————————–
لا يوجد دليل علمي يؤكد أن وجود ضرس العقل يساعد في دعم الأسنان المجاورة أو استقامة الأسنان. بل على العكس، بعض الدراسات أظهرت أن ضرس العقل قد يؤدي إلى تزاحم الأسنان الأمامية (13).

الحواشي
=======
(1) “Vestigial structures are anatomical features that are either no longer in use´-or-have reduced -function- compared to their homologs in related species.”
– Douglas Futuyma, Evolution, 4th Edition

(2) The size of the jaw is influenced by mechanical stimulation during development. Diets requiring less chewing can result in smaller jaws, potentially causing impaction of the third molars.”
– Lieberman, D.E., “The Evolution of the Human Head”, 2011

(3) “Reduction in jaw size without a concurrent reduction in tooth number results in impaction and crowding — most notably of third molars.”
— Lieberman, D., “The Evolution of the Human Head”, 2011

(4) “Most third molars are impacted´-or-partially erupted and lead to complications. Their prophylactic removal is often justified.”
— Blakey, G.H. et al., “Third molar removal: indications and outcomes”, Oral Surg Oral Med Oral Pathol, 2004

(5) “The reduction in jaw size is part of the mosaic evolution of Homo sapiens and does not imply degeneration.”
– Tattersall, Ian. “Becoming Human”, 1998

(6) Reduction in masticatory demands allowed for jaw reduction without compromising survival, consistent with cultural evolution.”
— Boyd & Silk, How Humans Evolved, 9th Ed

(7) “Australopithecus had large molars and premolars, with jaws adapted to heavy chewing — consistent with a robust jaw and broad dental arcade.”
— White et al., “Australopithecus afarensis and the origins of the genus Homo”, Nature, 1994

(8) Postcanine megadontia (enlarged molars) is a hallmark of Australopithecus… a feature that gradually diminished in Homo.”
— Wood, B., “Human Evolution”, BioEssays, 1996

(9) The dental arcade of Australopithecus was U-shaped and robust, contrasting sharply with the parabolic, reduced jaw of Homo sapiens.”
— White, T. et al., “Human Evolution”, 2000

(10) Vestigial traits persist because they are not deleterious enough to be removed by selection —´-or-because they are genetically linked to beneficial traits.”
— Carroll, S., “Endless Forms Most Beautiful”, 2005

(11) “Selection doesn’t act for maximal -function-, but for adequate fitness in specific environments.”
— Mayr, E., “What Evolution Is”

(12) There is insufficient evidence to support a link between third molar removal and long-term skeletal´-or-neurological issues.”
— Coulthard, P. et al., Cochrane Oral Health Review, 2014

(13) The presence of third molars is associated with late incisor crowding due to mesial pressure.”
– Southard TE et al., American Journal of Orthodontics, 1991

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!