الحارس بالمجّان مُكْرهًا
الحارسُ بالمجّان مُكْرَهًا
Free Guard without his Will
(1990-1922) راضي الأمين صالح صدقة الصباحيّ
ترجمة حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך ג’ עמ’ 597-592.
ملاحظة: بُدِّلت أسماءُ شخصيّات العرب المركزيّة في هذه القصّة، تفاديًا للمسّ بمشاعر ذُرّيّتهم. كلّ من يعرف تفاصيلَ الحادثة يعرف قطعًا الشخصيّاتِ الحقيقيّة.
مسدّس مستلٌّ أمامي
رفعتُ رأسي مذعورًا من على قُماش الساتان الذي كنت مشغولًا بقياسه، وعلى الفور لاحظتُ ماسورة/سبطانة مسدّس مُصوَّبة على وجهي. للحظةٍ فقدتُ أعصابي، ولكن صوت أبي عابد المفعم بالصرامة أعادني إلى وعيي الكامل.
سَكِّر تُمَّك! أمر هامسًا- لا تنطِق بكلمة!
لم يكن بحاجة ليطلبَ ذلك منّي. على أيّ حال، لم أكن قادرًا على التفوّه بصوت من شدّة الخوف. جلستُ بجانب ماكينة الخياطة في الجهة الخلفيّة من حانوت القُماش، بجِوار سوق البصل بنابلس.
كان ذلك في العام 1948. حرب بين اليهود والعرب. عرفتُ أنّه بنظر هذا الذي يهدّدني بمسدّسه، لا تساوي حياتي أكثرَ من ملّيم واحد، وهذا تقدير عالٍِ أكثر من اللزوم لحياتي بنظري أنا. كان من المعروف، أنّ اسمَ أبي عابد سيّء السُّمعة في كلّ مِنطقة نابلس، بل وما بعدها، بكونه رئيسًا للصوص اللصوص. كان طويلَ القامة، سمينًا، قويًّا ويُلقي الهلع في قلب كلّ من يراه. حتّى بالكلام المعسول، لن تنفع نفسك إذا ما كان لا مفرّ من شرّ يده المنتقمة.
اُسكُت يا سامري – تابع أبو عابد ليُخرسَني، وهو أمامي.
أعلم أنّكم السامريّين ذوو شرف. معي هذه الرِّزمة الصغيرة. خبِّئها في حانوتك إلى أن آتي لأخذها منك. نعم، سأطلبها من يدك، والويل لك إن حدث لها شيء. إذا كنت تشفَق على حياتك إيّاك من النظر بما فيها.
أخرج من حقيبتِه رِزمةً غير كبيرة، مربّعة ملفوفة بالقُماش وخبّأها بين لفّات القُماش في آخر الحانوت. وبدون أن أحسّ، اختفى مسدّسُه كأنّه لم يكن. اِبتسم إليّ محاولًا تهدئتي ولم أعرف في ما إذا كانت الابتسامة تنُمّ عن شرّ أم هي محاولة لتهدئتي. لم تعرف نفسي طعمَ الراحة لساعات مديدة بعد أن خرج بحذَرٍ من الحانوت وكأنّه ما كان.
قرصتُ نفسي مرّة فأُخرى لأتأكّد بأنّي لست حالمًا. طرف الرِّزمة برز من بين اللفّات. بالطبع لم أجرؤ على التفكير بإلقاء نظرة على محتواها. تهديدات أبي عابد قد طيّرت كلّ تفكير بهذا الاتّجاه. رأيتُ بعين روحي مدّةً طويلة شاربَه الطويل الأسود، نظرته المرعبة وابتسامته التي تنبِىء بالشرّ. يا الله، لماذا يحدُث كلُّ هذا لي؟ سألت نفسي أكثرَ من مرّة.
”لا تحضر/تداخل مكروها/مكرها/كريهةً/مكروهه إلى بيتك“ [تث 7: 26، اُنظر حسيب شحادة، الترجمة العربيّة لتوراة السامريّين. المجلّد الثاني: سفر اللاويّين سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الأكاديمية الوطنيّة الإ*سر*ائي*ليّة للعلوم والآداب،2001، ص. 457–456].
عندما دخل عمّي ممدوح إلى الحانوت، شعر فورًا باختلاف مِزاجي. اِحترمته كثيرًا، وبالقدر ذاته توجّستُ من غيظه عند معرفته سبب مزاجي هذا. لم أكن بحالٍ يُمكّنني من التفكير بالخطوة القادمة، وعند دخوله لم أتمالك نفسي
وكشفتُ له ما جرى.
في البداية ذُعِر عمّي ممدوح جدًّا وصبّ جام غيظه عليّ بصيحات مُدويّة. كنتُ أعلم أنّه فعل ذلك لضعفه وبدون أن يفهم ماذا حدث في الواقع. لم أكن بحاجة للانتظار أكثر من بضع لحظات حتى هدِىء قليلًا، عندها عدتُ وشرحتُ له اضطراري لذلك إزاءَ المسدّس المستلّ مقابلَ وجهي.
فجأةً دخل الحانوت صِهْري حسني إبراهيم صدقة الذي كان في ذلك الوقت في نابلس، وعندما عرف بالأمر من عمّي، وبّخني وقال: لا تُحضر مكروها لبيتك. لكن حينما سمِع عن المسدّس أخذ يُهدّئني.
قلْ لي أنتَ، ماذا استطعتُ أن أفعل؟
حقًّا، ماذا كان بوُسعي فعلُه؟ بقيَت خَشية كبيرة في فؤادي. سُرعانَ ما انتشرت الشائعة في المدينة وحتّى مدخل حانوتنا في المدينة، اقتحمت خَزينةُ سوق الجُملة الكبيرة في نابلس وسُرق منها كلُّ ما فيها – ستّة آلاف ليرة فلسطينيّة. مبلغٌ هائل. من كان لديه مبلغ كهذا؟ حتّى ليس لدى عادل الشكعة ولا الحاجّ نمر النابلسيّ. هذان الاثنان كانا أغنى النابلسيّين. قيمة كلّ ليرة في العام 1948 كانت تساوي أربعة دولارات.
آونتَها كان الدولار دولارًا. معدّل الراتب الشهريّ لم يتعدّ الثلاث ليرات. ستّة آلاف ليرة؛ كنز عظيم. لم أجرؤ حتّى على إلقاء نظرة على محتوى الرِّزْمة التي سلّمنا إيّاها أبو عابد، خِفتُ من وجود صلة ما بينها وبين إشاعة الاقتحام.
لا تسألْ أيّة ليلة مرّت علينا جميعًا. لا أحدَ من أهل البيت أغمض جفونَه. شعرتُ بالرغم من أنّ الأمر غيرُ متعلّق بي، كما سخر عمّي حسني منّي بأنّ مكروهًا/رِجْسًا موجود في حانوتنا، وحياتي لن تكون حياة، طالما أنّ المكروهَ ثمّة.
الحارس المجّانيّ يُنكر
مِرارًا وتَكرارَا، رويتُ مجدّدًا في آذانهم العطشى لكلّ ذرّة من المعلومات، حولَ اللقاء الغريب بيني وبين أبي عابد المرعب. وبينما كنت في طريقي خارجَ الحانوت، لاحظت مجموعةً من فيلق الأردنيّين المسلّحين، يرافقهم رجُلا مباحث بريطانيّان، تمّ جلبُهما للتحقيق في عمليّة الاقتحام. دخلوا ساحةَ سوق الجملة، الحِسْبة وأنا كنت مذعورًا جدّا. هرولتُ إلى البيت. لم أعرف ما أفعله بنفسي. استيقظتُ في اليوم التالي صباحًا مفعمًا بالمخاوف أكثرَ من البارحة. نزلت في اتّجاه سوق البصل. فجأةً، عند مدخل مخبز منحدر الشارع، أشار إليّ جارُنا حمدي القيني بأن آتيَ إليه في ركن الشارع. ماذا جرى للقرشيْن اللذين أودعهما أبو عابد عندَك؟ سأل هامسًا.
سؤالُه أدهشني جدّا. بقيتُ صامتًا لأكثرَ من هُنَيهة، إلى أن استعدتِ رَباطة جأشي فأجبته: عمّا تتحدّث؟ قهقه وهمس ثانيةً: لا تخفْ يا سامريّ، أعرف أنّ المال المسروقَ من سوق الجملة موجود عندك.
إنّي لا أعرف عمّا تتكلّم البتّة – أصرَرْتُ٠ اِرتعاشٌ شديد بدأ يصعَد من باطني قدميّ إلى رُكبتيّ – لم أرَ أيَّ مال، لم يبدُ أنّ حمدي القيني يميل لتصديقي، ولكنّه سحب يده منّي وجعلني أواصل طريقي. حقًّا، عُرف الأمر، قلتُ لنفسي. كلّ المدينة تعرف أنّ المال المنهوب مخبّأ في حانوتي، ماذا أفعل؟ ها هم قد يأتون لاعتقالي.
خوفي من الشرطة الأردنيّة المزوَّدة بالسِّياط كان شديدًا، لكن ذُعري من انتقام أبي عابد كان أعظم. دير بالك يا ولد، عدتُ وحذّرت نفسي.
بينما كنت نازلًا باتّجاه حانوتنا، عند مدخل الشارع القادم رأيتُ وجهًا معروفًا يبتسم إليّ ابتسامةً تُنذر بالشرّ. غريزة البقاء غلبتني، والمبتسم لم يكن سوى عابد ابن اللصّ، كان تلميذًا جيّدًا لأبيه. إن كان أبو عابد ”يأكل“ خمسة مثلي في وجبة الغَداء، فإنّ ابنَه عابد اِكتفى باثنين. لم يكن خطيرًا كأبيه ولكنّه كان يُلقي الرعب فيّ؛بالرغم ممّا قلتُ إنّ غريزةَ البقاء وجّهتني وزادت من ثقتي من لحظة لأُخرى.
تعال إلى هنا يا سامري، ماذا تحفط عندك؟ أشار عابد بيده أن أذهب إليه.
ها قرشاناعندك؛ أرسلَني أبي لأتسلّمهما من يدك.
عرفتُ على الفور أنّه يكذب؛ إذ أنّ أباه حذّرني البارحةَ بألّا أُسلّم الرِّزمة لأحد سواه وإلّا فالشرّ آتٍ. عرفتُ، ومن المفروغ منه، أنّ رئيسَ اللصوص أبو عابد لم يعتمد على أحد، ولا حتّى على أقرب أقربائه، بل على نفسه فقط.
عرفت أنّه إذا سلّمتُ الرِّزْمةَ لابنه سأكون قد وقّعتُ بيدي على الحُكم بإعدامي.
ماذا تقول يا عزيزي عابد؟ قلتُ له – وهل لم تعلم أنّه قبل أن أقفلتُ حانوتي البارحةَ، جاء إليّ أبوك وأخذ الرِّزْمة التي أودَعها عندي. لا علمَ لا بما كان في هذه الرِّزْمة، ولا أريد الآن أيضًا أن أعرف! رجعتْ جرأتي وسكنت في صوتي. بدا لي أنّ عابد قد وثِق بأقوالي.
حقًّا هكذا كان الأمر، وأنا لم أعرف – قال. إذن لم يبقَ لنا إلّا أن نشكرَك على محافظتك على مُلكنا بإخلاص كبير كلّ هلقدِّه. اِلتفت إلى الوراء وأسرع في طريقه.
نظرتُ إلى الخَلف وعرفت سببَ هرْولته. رجال المباحث البريطانيّون كانوا يتنقّلون من حانوت لآخرَ، يُحقّقون مع أصحاب الحوانيت بخصوص عمليّة الاقتحام. أنا أسرعت إلى حانوتي أيضا. شعرت بارتياح ما. أُنقذتُ من يدي الباز، إلّا أنّ النسرَ ما زال يُرفرف فوقي منتظرًا الانقضاض على فريسته.
أُعيدتِ الرِّزْمةُ
هكذا حقًّا كان. رأيت من زاوية الشارع شخصيّةَ أبي عابد المرعبة. انتظرَ بجانب الباب. بلا أيّة كلمة وبلا طرح السلام كعادة الشرق، انتظر لأفتحَ الحانوت. بدا منفَعلًا جدّا. رفعت بوّابة الحانوت وهو بهدوئه المرعب أسرع إلى آخر الحانوت ، فحص لفّاتِ القُماش، دسّ يدَه واستلّ من بينها الرِّزمة المربّعة ودفنها في عبّه. كرّمني ببسمة، لم ينطِق بكلمة، خرج من الحانوت واختفى.
هو خرج وعمّي ممدوح دخل. نظر إليّ نظرة فاحصة. أومأتُ برأسي مؤكِّدًا أنّ المالَ الحرام ام يَعُد في حوزتنا. في غضون ذلك، انتشرتِ الشائعة في السوق، بأنّ أبا عابد أخذ من السامريّ مالَ نهبِه. كثيرون جاؤوا إلى الحانوت في الساعات التالية لاستجلاء أمر أبي عابد وما أراد منّي. لم نتوانَ، عمّي ممدوح وأنا عن تهدئتهم وعن إخبارهم بأنّنا لم نعرف، ولا نعرف الآن، ماذا كان في الصُّرّة التي أودعها أبو عابد بأيدينا.
بعد ذلك، نزل سكّان حارتنا إلى السوق وهم طلبوا منّا سَماع كلّ تفاصيل الحادث. لا يكتفي السامريّون ببعض الشذَرات، وسُرعان ما وجدنا أنفسَنا نشرح للكهنة عِمران وواصف وتقي وعاهد وعاطف ويوسف كلَّ ما حدث لنا منذ أمس. اِتّضح أنّ صلاةَ الطريق التي صلّيتُها اليومَ بنيّة كبيرة عند مغادرة منزلي، قد أنقذتني.
فخري الشكعة
إنّك تسأل بالطبع ماذا كانت نهاية الواقعة. عرفت كلُّ المدينة بأنّ أبا عابد وعصابته سرقا خزينة سوق الجملة. ولكن لا أحدَ من ”الفِئران“ تجرّأ على ربط الجرس برقبة ”القطّ“.
توجّه تجّار السوق الذين سُرقت أموالُهم، وأصبحوا على وشْك الإفلاس، إلى الرجُل ”القويّ “ فخري الشكعة، أكثر سكّان نابلس احتراما. كلّ المدينة اِحترمته كثيرًا. كان أوّلَ المدعوّين لكلّ اللقاءات العامّة أو الاحتفالات الخاصّة. اشتهر بسخائه الجمّ، مع أنّه من وراء الكواليس تحدّث الجميعُ عن بطش ذراعه الطويلة المنتقمة إزاءَ الذين ينوون الإساءة به.
استقبل فخري الشكعة وفدًا من التجّار، ووعده بالعمل لصالحهم طالما أنّهم لا يشاركون مشاعرَهم مع الشرطة. أرسل رُسلًا لاستدعاء أبي عابد وحمدي القيني. لم يكن في عِداد الذين خشُوا من أبي عابد. أكثر من مرّة، استجاب أبو عابد لأمره للقيام بعملٍ معيّن لا يستحقّ التفصيل فيه. أبو عابد وحمدي القيني عرفا أنّ استجابتَهما لدعوة فخري الشكعة هي لصالحهما، وإلّا سيحدث حادث محزن وغامض لهما.
اِنحنيا جدًّا ثلاث مرّات قبل أنِ اقتربا من فخري الشكعة، وقبّلا ظهر يده واستفسرا بوجَل عن مُراده منهما. لم ينتظر فخري الشكعة فناجين القهوة، وقال فورًا إليهما. أعرف أنّ السّتّة آلاف ليرة التي نُهبت موجودة بحوزتكما. ستكون لصالحكما إعادةُ المال حتّى المساء إلى محلّه والله سيرزقكما مالًا في مكان آخرَ.
لم يجرؤ أبو عابد وحمدي القيني على رفض ذلك، إلّا أنّ أبا عابد استردّ بعضَ قوّته وقال: لا، يا سيدي، ما بيدينا هو خمسة آلاف ومائتا ليرة فقط وليس ستّة آلاف. اِنحنيا ثانيةً وتوسّلا له بأن يصدّقهما.
عرف فخري الشكعة أنّ مبلغ الثمانمائة ليرة قد دُفع لمنفذي النهب. كان الشكعة وراءَ وعده لتجّار المدينة. فليكن هذا – قال – كونكما استجبتما لدعوتي للتوّ واحترمتماني الاحترام اللائق، سأُضيف من جيبي الثمانمائة ليرة الناقصة.
مدّ يدَه وراءَ ظهرِه واستلّ من بين الوسائد صُرّةَ ماله وعدّ لهما الثمانمائة ليرة. فهِم أبو عابد وحمدي القيني بإيجاد طريقة لاسترجاع الثمانمائة ليرة لجيب الشكعة مع الفائدة المركّبة.
وقع أبو عابد وحمدي القيني أرضًا ساجديْن وشاكريْن لفخري الشكعة طيبة قلبه ورحماته. قبّلا طرفَ عباءته.
لو لم يأت رجالُ الشكعة ويأخذهما من هناك لبقيا مستلقيْن حتّى اليوم.