مقالات

التاريخ يصرخ.. لكن من يصغي؟ – الشهبي أحمد

في عالم لا يعترف إلا بالقوة، يصبح السلاحُ هو جواز العبور الوحيد نحو البقاء. فالتاريخ لا يُسجَّل بأقلام الحالمين بالسلام، بل يُكتب بيد من يمتلك القدرة على فرضه، حتى لو تلحف بعباءة الدبلوماسية والتفاوض.

حين تخلّت أوكرانيا عن ترسانتها النووية عام 1994، لم يكن ذلك بدافع السذاجة، بل بوعدٍ خادع بعالمٍ جديد تُصنع فيه الأمنيات بالحبر بدلاً من الرصاص. لكن ما إن اشتعل فتيل الحرب، حتى اكتشفت أن الوعود تذوب أسرع من الثلج، وأن الورق لا يصلح درعًا حين تبدأ القذائف بالتساقط. فأين ذهبت تلك الضمانات الدولية حين اجتاحت الدبابات الروسية أراضيها؟ تبخرت كما يتبخر السراب عند أول لمسة واقع.

ولم تكن أوكرانيا وحدها من وقعت في فخ “الأمان الورقي”. شعوبٌ كثيرة راهنت على العدل المزعوم في الاتفاقيات، لكنها سرعان ما وجدت نفسها بلا سند حين احتاجت إليه. الهنود الحمر ألقوا أسلحتهم، فكانت مكافأتهم إبادةً جماعية. الليبيون صدّقوا الوعود الغربية، فوجدوا ثورتهم تتلاشى وسط دوامة الفوضى. والأندلسيون سلّموا مفاتيح مدنهم، ليُدفع بهم إلى محارق محاكم التفتيش. التاريخ لا يعيد نفسه عبثًا، بل يُلقّن دروسه لمن يريد أن يفهم: لا كرامة بلا قوة، ولا وجود لمن لا يستطيع فرض نفسه.

قبل سنوات، حين طلبت الولايات المتحدة من طالبان إلقاء السلاح، كان رد المفاوض بسيطًا: “هذا السلاح هو ما جعلكم تجلسون أمامنا.” لم تكن مجرد كلمات، بل حكمةٌ صيغت بدماء الشعوب. فالقوة ليست مجرد أداة للقتال، بل هي التي تمنحك مقعدًا على طاولة المفاوضات. واليوم، تتكرر المسرحية ذاتها: إس*رائي*ل تطلب من ح*ما*س أن تُلقي سلاحها، وكأنها تطلب من طائرٍ أن يق*ت*لع جناحيه ليبرهن على رغبته في الطيران! لكن المقاومة تدرك أن “سلامًا” يُبنى على نزع سلاحها ليس سوى استسلام مغلّف بشعاراتٍ براقة، لأن من يُسلّم قوته، يسلّم مصيره، ومن يسلّم مصيره، يخرج من معادلة التاريخ.

العالم يتقن فن التجاهل والنسيان. الاتفاقيات التي وُقّعت مع أوكرانيا، والضمانات التي مُنحت للشعوب المستضعفة، والوعود التي تُقدَّم اليوم للفلسطينيين، كلها مجرد نُسَخ معدلة من ذات الخديعة القديمة: “تخلَّ عن سلاحك، وسنمنحك الحياة”. لكن الحقيقة أن الحياة بلا قوة ليست إلا انتظارًا مؤجلًا للموت.

يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: “وَدُّوا لَوْ تُغْفِلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأمْتِعتكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً”. هذا ليس مجرد تحذير ديني، بل قانونٌ صاغته التجربة البشرية. والكيان الصهيوني يفهم هذه الحقيقة أكثر من غيره، فهو يتمسك بسلاحه حتى وهو يرفع شعارات السلام. فلماذا يُطلب من الفلسطيني وحده أن يكون ساذجًا؟

الذين يرفضون التخلي عن سلاحهم ليسوا مغرمين بالحروب، بل يعرفون أن التاريخ سيحاكمهم إذا استبدلوا دماءهم بتوقيعاتٍ جوفاء. إنهم كالأب الذي يرفض أن يسلم سكينه لذئبٍ يتربص بأطفاله. قد يُدان صمودهم اليوم، لكن غدًا، ستكتب الأجيال القادمة عنهم بفخر في صفحات الأرض، لا في سجلات الهزيمة.

#التاريخ_لا_يرحم #القوة_تصنع_السلام #الأمان_ليس_ورقًا #التاريخ_يصرخ #لا_كرامة_بلا_قوة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!