مقالات

عُقدة الكلام في وطن الصمت المُدجَّن

في البلاد التي يُفترض أن تكون اللغة جسراً، تحوّلت الكلمات إلى ألغام، والسؤال إلى محظور، والصوت إلى تهمة.

لم نعد نَسأل لنفهم… ، بل نصمت كي لا نُساء فَهمُنا…

نخشى السؤال كما يخشى المذنبُ سوطَ القاضي … ،ونتهيب الجواب كما يتوجس السجين من اعترافٍ قد يمدد سجنه للأبد.

في بلادي … السؤال ليس أداة معرفة، بل بوابة شبهة … ،والإجابة ليست فضيلة، بل مقامرة خطرة بين النجاة والهلاك…!!

في أوطانٍ تعافت من عقد الماضي … ؛ صار السؤال حقًّا مقدّسًا بل واجبا وطنيا …

والجوابُ مسؤولية أخلاقية وانسانية لا يخجل منها الحاكم ولا المواطن…

أما عندنا، فقد صار السؤال فعلًا مشبوهًا … ؛ يحتاج صاحبه إلى حذر المحقق ومهارة الجاسوس!

أيُّ بلادٍ هذه التي نخاف فيها من أنفسنا؟

أيُّ أوطانٍ هذه التي تتحول فيها المعرفة إلى خيانة؟

أيُّ زمنٍ هذا الذي يُربّى فيه الأبناء على أن الصمت نجاة … ،وأن الجهر بالرأي أقصر طريقٍ إلى الجحيم؟!

متى بدأنا نخاف الكلام؟

متى تسرّبت إلينا تلك العُقدة الخفية التي جعلت من الحوار ج#ريم*ة، ومن الصراحة فضيحة؟

ربما حين بدأت السلطة تحتكر الحقيقة وتغتال الصدق وتحارب البساطة … ،وربما حين أصبح المواطن مراقبًا حتى وهو يحلم… ؛ وربما… حين تسلطت قوى الاحتلال والاستعمار او عندما حكمت الفئة الهجينة والشراذم الطائفية والطغمة البعثية الصدامية … ؛ او حين اختلط الدين بالاستبداد، والعشيرة بالوطن، والسلاح بالحكمة.

لقد اختنق السؤال في صدورنا قبل أن يُولد،

وصار العقل يمارس رقابةً على القلب،

واللسان يعتذر من الفكرة قبل أن ينطقها.

في وطني، السؤال لا يطرق الأبواب … ؛ بل يحفر قبره بصمت!

السائل عندنا ليس طالب  حقيقة، بل مشتبه به.

والمسؤول، غالبًا، لا يرى في السؤال فرصةً للبيان، بل تهديدًا لمقامه، وتشكيكًا في نواياه.

فأيّ معنى يمكن أن يبقى للسياسة والدين … ؛ إذا صار الحوار تهمة، والنقاش تمرّداً، والنقد كفراً و زندقة؟!

خاب قومٌ يخشون الكلمة والسؤال … ؛ وسعد قومٌ أحبّوا الكلمة…؛  وحرّروها من القيود والاغلال .

الأسئلة التي تصنع الأمم لا تُولد في مؤتمراتهم الصحفية المعلّبة ، وشعاراتهم المكررة , وخطبهم وبياناتهم المملة ؛ بل في قلوب الأمهات الثكالى , وفي دموع اليتامى الحيارى ، وفي مجالس المثقفين والباحثين والمختصين والخبراء, وفي صومعات الاحرار والواعين والفلاسفة ,  وعلى أرصفة الجامعات، وفي وجوه التلاميذ وهم يحدقون في معلميهم بلا أجوبة.

منذ متى صار المثقف متآمراً؟

والصحفي مندسًّا؟

والمعلم خائفاً؟

والطالب بوقاً؟

منذ متى صار الكلام شبهة؟

والتفكير ج#ريم*ة؟

والسؤال مذبحاً؟

نحن نعيش في مجتمعٍ مجروح … ؛ يكاد يختنق تحت عبء الخوف المزمن …

خوفٌ من السلطة، من الدين، من العشيرة , من العصابة ,  من الجار، من الأخ، من المرآة , من القوي , من المسؤول , من السياسي … !

فكيف لبلادٍ محكومة بالخوف أن تنهض؟

كيف لها أن تُبدع أو تُنتج أو تفكّر أو تحلم؟

لم تُبْنَ الحضارات بالعُقد والكتمان … ؛ بل بالسؤال…

السؤال الذي حرّر سقراط فق*ت*لوه،والذي أشعل أذهان العرب في العصر الذهبي، قبل أن يُطمر تحت ركام الفتوى والبيعة والسيف …

العراقي الذي علم الدنيا الحرف … ؛ صار يخاف من مجرد سؤال!

يا للمفارقة… ويا للحسرة …

ليس عيبًا أن نسأل … ،لكن العار كل العار أن نصمت … ؛ ونُورِّث أبناءنا لغةً مشوّهة لا تعرف سوى الخضوع والريبة.

السؤال يا سادتي ليس رجساً من عمل الشيطان … ؛ بل صوت الله حين ينادي العقل ليصحو من نومه الطويل…

فاسألوا…؛ ولو لم تُجبكم السلطة … ،ولو أغلقوا دونكم الأبواب…

فالخوف من السؤال أشد خطرًا وضررا من كلّ جواب محتمل وغير محتمل …

كتبت هذه الحروف القلقة والكلمات الوجلة لا لأننا الان نعيش الخوف من السؤال او الجهر بالحق والصدق كما كنا سابقا ؛ ايام الزمن الاغبر وحكم الفئة الهجينة والطغمة الصدامية اللعينة ؛ بل لأني استشعر ان القادم لا يبشر بخير , وارجو من القدر ان يخيب ظني ويكذب حدسي , وان يتمتع ابناء بلدي بالمزيد من الحريات …

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!