الحوار الهاديء

تراجيديا العزف فوق ركام الحرب

من عراقي يعرف لغة الحرب كما تُعرف اللغة الأم ويقرأ صور الدمار كما تُقرأ عناوين الكتب من ابن بلد زُينت مقابرهُ بأرقام الموت لا بأسماء الراحلين وتكاثرت في أرضه النعوش حتى صار وادي السلام مرآة لمحن لا سلام فيها.

أكتب من عراقٍ لم يكن يوماً بمنأى عن الحروب من بلدٍ عصفت به التعقيدات وأثقلته العسرة في كل شيء: في السياسة، في الاقتصاد، في الأمن، وفي الأمل واليوم، ونحن نتابع تصاعد ألسنة اللهب بين الجارة الإسلامية إيران والكيان الصهيوني، لا يسعنا إلا أن نرى أنفسنا في مرمى الاحتمالات المفتوحة لا الخيارات المحدودة، نخشى أن تجرنا هذه النار مجدداً إلى محرقة لا طائل منها.

أكتبُ في زمن لا صوت يعلو فيه على أزيز الطائرات ولا لغة تفهمها الأرض سوى لهب الصواريخ وسط هذا المشهد المتوتر الذي تتصاعد فيه ألسنة النار بين إيران وإس*رائي*ل لفت انتباهي مشهد فريد على مواقع التواصل الاجتماعي، مشهد شاب إيراني يقف في منتصف الشارع لا يحمل سلاحاً ولا يلوح بشعار بل يمسك بكمانه ويعزف.

كان القصف على أشده والدفاعات الجوية ترصد في السماء حرباً لا ترحم بينما هذا الشاب يعزف كأنه يعلن أن الحياة لا تزال هنا، وأن الفن باقٍ رغم فوهات المدافع وأننا لسنا فقط وقوداً في معارك الكبار.

ومن مكاني كعراقي يتابع هذه المشاهد بكثير من القلق لا يسعني إلا أن أطرح سؤال مليئ بالفوضى: إلى أين نحن ذاهبون؟ وأين يقف العراق في هذه المعادلة الصعبة؟

العراق هذا البلد الذي خرج تواً من ركام الار*ها*ب ولم تلتئم جميع جراحه من ويلات الار*ها*ب والحروب المتلاحقة، واراه اليوم على شفا حفرة من تعرضه لخطر جديد ليس فقط من نيران الحرب المشتعلة الآن بين طهران وتل أبيب بل من احتمال التورط فيها أو أن يكون ساحة بديلة لتصفية الحسابات.

إننا كعراقيين لا نشكك بصدق المواقف لأبناء بلدنا في الدفاع عن الأرض والعقيدة والكرامة، ويقيناً نحن مع الجمهورية الأسلامية أيران وليس مع الصهيونية العبثية ولكن صوت العقل يقول: لا تدخلوا حرباً ليست حربنا، العراق لا يملك منظومة دفاعية جو-فضائية توازي هذه الماكينات العسكرية المتوحشة.
لا نملك مقومات صد عدوان جوي ذكي ومدمر ولا قدرة على مواجهة حرب يُراد منها أن تبقينا في دائرة الخراب.
الحرب مهما كانت شعاراتها لا تبني وطناً بل تُسقط الآمال وتوقف عجلة الاقتصاد وتعيد الناس إلى نقطة الصفر خصوصاً مع أمة قدم لها العراق كل مايملك، لتجزينا هذه الأمة الصامتة السوء كله ولا نستغرب مواقفها فهذه الأمة باعت كرامتها من أجل مصالح عروش أنظمتها الحاكمة!.
في الوقت الذي بدأ فيه العراقيون يلمسون ملامح الاستقرار ويأملون بفرصة للعيش الكريم وعلى مقربة من أنتخابات يُعقد عليها آمال التغيير تأتي هذه الحرب لتطرد الحلم مجدداً وتفرض واقعاً من القلق والاضطراب.

ارى الآن بدأت الكثير من المصالح تتعطل وتنعكس على الداخل العراقي رغم عدم خوض غمار الحرب بعد، وحالة الخوف تتصاعد في الشارع وهذا الخوف ليس ضعفاً، بل وعي متأخر بثمن كل حرب دفعناه على مدى عقود.
العراقي اليوم لا يخاف من الموت واعتاد ابناءه على تحمل المسؤوليات الإنسانية والأخلاقية وفق مبادئه المعروفة، بل يخاف أن يُفرض عليه موت لا علاقة له به أن يُستدرج إلى معركة لا قرار له فيها
ولا نصر يلوح منها في الأفق.

رسالتي كصحافي وأكاديمي لكل القوى السياسية والحكومة العراقية، والفصائل المسلحة: لا تسمحوا بأن يكون العراق ضحية حرب الآخرين لا تجعلوا من أرضنا عنوان خراب أنتم تعرفون مرارته، اختاروا الوطن قبل كل شيء قبل الاصطفاف وقبل الولاءات وقبل الحسابات الإقليمية الضيقة.
فالكمان الذي عزف وسط القصف في إيران هو صرخة استذكار لكل العاقلين حافظوا على الحياة لا تُسلموها للدمار.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!