«بوح الحياة» مرآة للقلق الوجودي والتصدّع الاجتماعي – إدريس
يشكّل كتاب «بوح الحياة»، وهو مجموعة قصصية قصيرة جدّاً، للكاتب والقاصّ الكوردي السوري، سربند حبيب، نموذجاً ناضجاً لفنّ القصّة القصيرة جدّاً، حيث تتقاطع فيه الرؤية الوجودية القلقة مع النقد السياسي والاجتماعي، من خلال قصص مكثّفة، مواربة، وغنية بالرموز والدلالات والإشارات، تتميّز قصص هذه المجموعة، بالاختزال اللغوي، والانفجار الفكري الدلالي، وهي خصائص تنتمي إلى القصّة القصيرة، لكنها تقترب أحياناً – في بعض قصصها – من القصيدة النثرية؛ في حسّها الإيقاعي وصورها الشعرية المكثّفة؛ إذ تعتمد معظم القصص على مفارقة ذكية، أو صدمة مفاجئة، وغالباً ما تنتهي بانقلاب حادّ في المعنى، أو بالمفارقة الساخرة.
يرى القاصّ، أن المنفى ليس فقط مكاناً مادّياً، بل حالة روحية ونفسية، كما في قصّتي «غيوم الوطن»، و«الحنين»، إذ نلمح كيف يتحوّل المطر والرعد والغيم إلى رموز للحنين والخوف في آنٍ معاً، حيث يقول الكاتب في الصفحة السابعة من قصّة «غيوم الوطن»:
«وبينما كانت طاحونة الحرب تُدار رحاها في بلادهم، أصابهُ «فوبيا» دويّ الرعد والبرق، فقرّر الرحيل؛ ليحتمي تحت سماء ترأف به، وتستغيثه.
في المهجر أيقن بوجود فصل واحد للرعد، فاعتاد على دويّها مختبئاً، لكن شهوة تعطّشه للمطر أجبرته على الخروج، مشى طويلاً تحت المطر برفقة الخوف، تذوّق نشوة الودق منتعشاً، هشيم روحه المنهكة، فجأة! اصطدمَت غيمتان محمّلتان برائحة الياسمين، فكان لدويّهما تبعثر روحه، مشكّلة قوس قزح».
تقدّم هذه القصّة تجربة شعورية كثيفة، تتداخل فيها الذاكرة بالحسّ، والمنفى بالمطر، والحنين بالرعب. هو نصّ شعري في هيئة قصّة قصيرة جداً. «غيوم الوطن» قصّة غنية بالصورة والرمز، تحمل بنية دقيقة، وتشتغل على مفارقة نفسية: كيف يمكن للحنين أن يُشعل وجعاً أكبر من الخوف نفسه؟ وكيف يمكن لقوس قزح أن يكون تتويجاً لا للفرح بل للانفجار الداخلي؟
وفي قصّة «الحنين» من الصفحة الثامنة والأربعين يقول:
«بعد موت الربيع في بلده، اختفتِ الشمس، وتفشّى السواد، وانتدح الموت في كلّ مكان، فأرغمَ «آزادُ» كأبناء بلده على ترك الوطن والهجرة؛ بحثاً عن حلمه.
روحه بقيت معلّقة ما بين برزخين. في كلّ مساء تنتفض أحلامه وتثور؛ للعودة إلى حضن الوطن.
ذات حلم اتفق مع (أناه) خلسة على العودة، فمشى في شوارع مدينته المدمّرة فرحاً، يبحث بين الأنقاض عن ذكرياته وأصدقائه، فجأة يرنُّ جرس المدرسة فيستيقظ على صوت المعلم الألماني “Die zeit ist vorbei”، فيذوب وهج الوطن بلعاب حلم ما زال يبحث عن أحلامه».
في هذه القصّة نتابع تجربة «آزاد»، الذي غادر وطنه بعدما اختفى الربيع وماتتِ الشمس فيه؛ روحه معلّقة بين برزخين: بين حلم العودة القابع في أعماق اللاوعي، وواقع المنفى المتصدّع، الذي يفرض عليه الانفصال والهروب. فيها صراع داخلي يظهر في «ذات حلم اتّفق مع (أناه )خلسة على العودة»، دلالة على انقسام الشخصية بين الذات التي تشتاق، والذات التي تستسلم للغربة، وهنا تكمن الخيانة التي تحملها العودة، خيانة للمنفى وللذات الجديدة التي فرضها الواقع. المنفى إذن هو جرح لا يُشفى، وانفجار متواصل بين شوق قاتل وخوف متربّص، إنه حالة نفسية روحية تتجسّد في رموز الطبيعة، وتترجم انكسار الروح، التي تبحث عن وطن فقدته، لكنها لا تزال تحلم به.
تظهر اللغة في «بوح الحياة» الصادرة عام 2025م، كنموذج قمعي، لتصبح الهوية مأزقاً وجودياً، خاصّة بالنسبة للذات الكوردية المهمّشة. تُشكّل اللغة نبض الهوية ومرآة الذات، حيث تتشابك الكلمات مع الانتماء والتصدّع، وتتحوّل إلى مساحة صراع وتجديد في آنٍ واحد. ففي ظلّ تجربة المنفى والشتات، التي تحضر في القصص، تتحوّل اللغة إلى طقس مقدّس يحفظ جذور الهوية الثقافية، لكنها في الوقت ذاته ليست ثابتة أو جامدة، بل تتفاعل مع الواقع الجديد وتعيد تشكيلها وفق سياقات مختلفة. وهذا الأمر يتجلّى في تعدّد الأصوات السردية، والتداخل بين اللغة الأمّ ولغة الغربة، أو اللغة الأجنبية الغريبة، ما يعكس انقسام الشخصية وتوتّرها بين الأصل والانتقال، بين ما هو مفقود ومطلوب، وبالتالي القاصّ في كتابه يحمل شخصية منفصلة عن شخصيته الواقعية.
تتوزّع الهوية لدى حبيب بين التمسّك بالذاكرة والحنين، وبين محاولات التكيّف والتأقلم مع الحياة الجديدة، فتتراوح بين التمزّق والاحتفاء بالاختلاف. اللغة تصبح هنا أداة مقاومة للصمت والغياب، وعلامة على الاستمرار، فهي كيان حيّ، لا يفقد اتّصاله بالهوية رغم التجارب الصادمة، بل يعلن بقاءه وتجدّده من خلال النصّ.
هنا في «بوح الحياة»، كأحد إصدارات دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، العديد من القصص، التي تتناول الجنس والرغبة والخيانة، كصراع داخلي بين الذات والجسد، مثل قصّة «خيانة الجسد»، «وأد الرغبة»، و«داخل الرحم… خارج العقل»، حيث تظهر العلاقة الحسّية كمرآة للخذلان والعجز. يقول الكاتب في قصّة «وأد الرغبة»:
«غانية شقراء تزور حلمه كلّ مساء، منذ أن جفّت ينابيع الشهوة وموت الرغبة لدى الزوجة. ذات حلم غاص في تفاصيل الغانية الجنسية، لم يكترث لهمود جثّة بجانبه.
بدأتِ المعركة، لامس، داعب، مصّ، راوغ…، وقبل بزوغ الاحتلام واكتمال النشوة والقذف، استيقظ فزعاً! ثمّة شخير يؤنّبه على ارتكاب خيانة».
هنا يضع حبيب القارئ أمام مرآة كثيفة من التوتّرات النفسية والوجدانية، عبر مشهد سريع الإيقاع، مكثّف الدلالة، مشحون بالثنائيات النفسية: الحلم والواقع، الرغبة والخيانة، الجسد والضمير، فاتحاً بوّابة واسعة على جحيم داخلي مختبئ خلف مظاهر الحياة اليومية الزوجية.
فالقصّة تتناول لحظة حُلمية، يعيش فيها البطل رغبة مكبوتة، بعد أن جفّت منابعها الحقيقية في حياته الواقعية مع زوجته، فالغانية التي تزوره كلّ مساء ليست إلا استعارة للرغبة المكبوتة، واللذّة المؤجّلة، والحنين الجسدي إلى ما هو مفقود أو محرّم، لكن المفارقة التي تشكّل بنية المفاجأة في القصّة، هو أن هذا الانفلات الجنسي لا يتمّ في الواقع، بل في الحلم، وهو ما لا يعفي البطل من الشعور بالخيانة؛ فالصراع لا يحدث بين جسدين، بل بين الذات وضميرها، بين ما يشتهيه وما يخافه، بين ما يحلُم به وما يحرّمه على نفسه. وما يجعل هذا النص بالغ التأثير هو أنه يُدين فعلاً لم يحدث، أيّ أننا أمام خيانة في الحلم، ولكنها أكثر وقعاً من خيانة في الواقع؛ لأن الذات هي الخصم والحَكَم معاً؛ فالشخصية تعيش صراعاً داخلياً، تشتهي وتحلم، لكنها تستفيق مذنبة، مرتجفة، يجلدها الضمير بصوت الشخير، الذي لم يكن يُلتفت إليه من قبل.
هناك قصص سياسية، تحمل طابعاً رمزياً ساخراً، كما في «أنفلونزا الديكتاتور»، و«إسقاط النظام»، «سبي الحلم»، و«حَمزة»، حيث وظّف الكاتب الكوردي اللغة لتعرية بُنى السلطة والفساد، دون الوقوع في المباشرية أو التقريرية، ففي قصّة «إسقاط النظام» ذات النفس الرمزي – السياسي – الاجتماعي، يتقاطع الجوع مع الحرّية، والطين مع المقاومة، والدم مع التطهير «اشتكوا من جوعهم الأزلي، فأرادوا أن يخرجوا الحرّية من وكرها الإلهي»، فالجوع الأزلي لا يُقصد به فقط الجوع المادّي، بل الجوع إلى الكرامة، إلى الحرّية، إلى العدالة والمساواة.
تظهر الحرّية في قصّته وكأنها شيء مقدّس، لكنه محجوز، مخفي، لا يُنال بسهولة، فاللفظ «وكر» يوحي بأن مكانها الحالي ليس لائقاً، كأنها أُسرَت أو شُوّهت.
في القصص التي سنطرحها الآن كأمثلة على تمثيل شهادة وجود ومرآة لما خلّفته السلطة من تشوّهات في الوعي والجسد، وندوب في الذكرة والانتماء، ندوب لا تزال تنزف بشدّة وخطورة. قصص تشير إلى تلامس السياسة لعمق الإنسان، وترك بصمة آثارها فيه، لا من موقع الخطاب، بل من موقع الانتهاك والتأمّل والمقاومة وتبعثر المجتمعات والمكوّنات.
قصّة «سبي الحلم»:
«في المساء حلُم بحرّيته، يقود مظاهرة عارمة تدعو إلى إسقاط النظام الحاكم، وفي الصباح استيقظ على قعقعة مداهمة كبيرة لمكافحة الار*ها*ب».
تقوم هذه القصّة على فجوة سردية صادمة، حيث يقدّم فيها الكاتب مشهداً مكثّفاً يتقاطع فيه الحلم بالواقع، الليل بالنهار، الحرّية بالقمع، والفردي بالجماعي، في بنية رمزية دقيقة، لا تتجاوز بضعة أسطر، لكنها تختزن عالماً كاملاً من المأساة والوعي، ويضعنا في مواجهة مفارقة وجودية صادمة: الحلم، باعتباره فضاءً، لطالما مثّل آخر معاقل الحرّية الذاتية في عالمٍ يضجّ بالرقابة، لم يعد بمنأى عن الملاحقة، أيّ أن أكثر مناطق النفس انغلاقاً وسرّية لم تعد مصونة، وأن يد السلطة قد امتدّت لتخترق حتى المساحات الذهنية، التي لم تصبح فعلاً بعد، وإن مقولة «مكافحة الار*ها*ب» لا تأتي عبثاً، بل تُستخدم هنا كسلاح لغوي في يد السلطة لتبرير المداهمة، وبهذا، فالقصّة هنا تدين الأنظمة، التي تختزل النضال في الار*ها*ب، والمعارضة في الفوضى، والحلم في الخيانة، كتفكيك سردي لخطاب السلطة، من خلال أدواتها نفسها.
تعتمد معظم قصص «بوح الحياة» الصادرة في هولندا، على المفارقة والرمز، كركيزتين أساسيتين في البنية الفنّية، إذ تُعتمَد المفارقة لا بوصفها مجرّد أداة للدهشة أو المفاجأة، بل بوصفها وسيلة تفكيك للواقع وكشفٍ لتناقضاته البنيوية. المفارقة في قصصها تتشكّل من التقاء الخيال بالحقيقة، والرغبة بالعجز، والمرتقب بالقمع، لتصنع بذلك سخرية سوداوية، تخفي تحتها خطاباً نقدياً حادّاً تجاه المجتمع والسياسة والقلق الوجودي الفردي.
اللافت في القصص، أن المفارقة فيها لا تُقدّم بلغة صاخبة أو شعاراتية، بل من خلال لغة إيحائية مكثّفة مختزلة التعبير، مشحونة بالدلالات، وهذا الأسلوب المكثّف يمنح القارئ فرصة التفاعل مع الفكرة، لا كمستهلك للمعنى، بل كمُنتج مشارك في تأويله، مما يعزّز من البعد الجمالي والفلسفي للعمل القصصي.
أما الرمز، فيظهر بوصفه أداة توسعة دلالية، تفتح القصص على مستويات متعدّدة من الفهم والتأويل، فالقاصّ يستثمر الرموز الطبيعية كالثلج، المطر، الغيم، والحقول، لتجسيد الحالات النفسية والانفعالية للشخصيات، وغالباً ما تأتي هذه العناصر محمّلة بدلالات عن الحنين، الشوق، الفقد، أو الغياب القسري، في المقابل تستعير الرموز الدينية كالقيامة، الجنة، والنار والعذاب، لتُقيم مقارنة أو تصادم بين العالم الواقعي الحقيقي المسكون بالخراب، والعالم الماورائي المُتخيَّل، أحياناً للتهكّم على وعد الخلاص، وأحياناً لإعادة مساءلة القيمة الروحية. أما الرموز السياسية كالعلم، الشعار، السلطة، والقائد، فوظّفها لتعرية الاستبداد والهيمنة والعسكرة، وكشف زيف الخطاب الوطني حين يتحوّل إلى أداة لقمع الإنسان، هي رموز لا تُستخدم بوصفها ثابتة أو منتمية إلى خطاب رسمي، بل يعاد تدويرها داخل الفكرة، لتحمل شحنة مقاومة مضادّة للمؤسّسة وللرؤية الأحادية.
وهنا نطرح أمثلة تُجسّد استخدام المفارقة والرمز في البناء الفنّية للمجموعة، وتُظهر كيف تُسهم هاتان التقنيتان في تعميق البعد الإيحائي للقصص وإيصال الرسالة المرجوة:
قصّة «غيوم الوطن»:
تظهر المفارقة فيها من حيث تزامن المطر والرعد – وهما رمزان للخصب والفرح عادة – مع القلق والخوف من المنفى والتصدّع والتبخّر، فبينما ينتظر الإنسان الغيم بفرح، يتحوّل إلى تهديد في سياق الحرب والشتات.
أما الرمز فمن خلال الغيم، فالغيم هنا لا يُشير فقط إلى الطقس، بل إلى ذاكرة ثقيلة، وحنين متوتّر، يرافق حياة الإنسان السوري المنفي في الغربة.
«وبينما كانت طاحونة الحرب تُدار رحاها في بلادهم، أصابه فوبيا دويّ الرعد والبرق».
في قصّة «وأد الرغبة» تكون المفارقة بين الخيانة التي تُرتكب في الحلم، وبين البرود الزوجي الذي يق*ت*ل الشهوة، حيث يُترك الجسد حيّاً، لكن الرغبة مدفونة، «لم يكترث لهمود جثّة بجانبه». أما الرمز فيتمثّل في الغانية، التي ليست فقط امرأة، بل تجسيد لرغبة الحياة ذاتها، بينما الزوجة الجامدة تمثّل موت الروح، موت العاطفة، وموت المشاركة.
إن الحلم بالحرّية في قصّة «سبي الحلم» يتحوّل إلى ج#ريم*ة ار*ها*ب، كمفارقة! أما مكافحة الار*ها*ب فتستخدم كرمز للقمع الأمني في الأنظمة الاستبدادية، فحتى الحلم ج#ريم*ة قد يُحاسب عليها.
قصّة «صراع الفصول»:
المفارقة الرمزية: الربيع – رمز الثورة – يُقمَع من قبل الشتاء، ويُجبر على الفرار إلى المريخ! أما الرمز: الفصول ليست مجرّد مناخ، بل رموز للفصول السياسية: الربيع العربي، الشتاء الاستبدادي، الصيف القمعي…
يتّضح من هذه الأمثلة، أن الكاتب لا يوظّف المفارقة ليزيّن أسلوبه اللغوي والسردي، بل كنمط تفكيري، وسؤال معرفي عن الواقع، ويستخدم الرمز كمرآة ممزّقة للإنسان والعالم، وبهذا التوظيف المركّب للمفارقة والرمز، ترتقي القصص إلى مستوى الكتابة الرمزية المقاومة، حيث لا تكون القصّة مجرّد سرد لحادثة ما، بل مشروعاً فنّياً وفكرياً لإعادة النظر في الحياة والموت، السلطة والحرّية، الذات والآخر، الذاكرة والانتماء.
إن اللغة ليست محايدة في هذه المجموعة، ولا هي أداة نقل، هي لغة مشحونة بتوتّر شاعر مأخوذ بوهج الصورة والخيال السامي، حتى في أكثر لحظاته عتمة وعبثية وتصدّعاً، يرى العالم من شقوق المجاز. يستثمر الجملة القصيرة في توليد توتّر دائم وازدهارها فكرياً، حيث الجمال الشعري يتقاطع مع الفجيعة، حيث يتجاور الحسّي بالرمزي، وتتعايش البساطة البنيوية مع العمق الإيحائي.
يميل الكاتب إلى الاختزال اللغوي عبر الجملة القصيرة المتوتّرة، التي تُقذف على القارئ مثل ومضات كهربائية، لا تمنحه وقتاً للتأمّل بقدر ما تتركه في مواجهة صدمة دلالية متكرّرة؛ كلّ قصّة هي ضربة واحدة، مكثّفة، محسوبة الإيقاع، لا تعبأ بالتفاصيل بل تستثمر الإيحاء والاختزال لتوليد طبقات من المعنى، ففي قصّة «سبي الحلم»، تكفي جملة: «في المساء حلُم بحرّيته… وفي الصباح استيقظ على قعقعة مداهمة كبيرة لمكافحة الار*ها*ب»، لتكثيف مصير شعب بأكمله، بين الحلم والاعتقال، في توازٍ بين زمن الحلم وزمن الواقع. الجمال هنا لا يتنافى مع الفجيعة، بل يُستخرج من داخلها، فالأسلوب يشبه رقصة خفيفة فوق حقل ألغام، حيث الصورة الشاعرية لا تخفّف من العبء النفسي، بل تؤجّجه، كما في وصف الغيم والمطر في «غيوم الوطن»، حين يصوّران ككائنات عائدة من الذاكرة لا من السماء.
وفي قصّة «معجون الأسنان بطعم المُخاط» يتنقل من تفاصيل طفولية يومية «كان دائماً يتلقّى العقاب والتوبيخ من أمّه على هذه العادة السيئة» إلى مشهد لجوء بعد الحرب، في انتقال يشدّد على التماهي بين الصغير والكبير، بين الفرد والمجتمع، ثم تحوّل العبث الطفولي إلى فوائد علمية، تبدو حكيمة، لكنها تُطوّع بلغة سردية ساخرة للغاية: «فخيراتكم كثيرة، لكنكم لا تستفيدون منها»، هذه الجملة تحمل مفارقة حادّة بين العلم والعرف، وبين الفعل الفردي والجماعي، وتفضح غفلة المجتمع عن فوضاه الداخلية الناعمة.
إن الأسلوب واللغة في قصص سربند حبيب هو شاعرية مُضمّخة بالوجع، تنأى عن الزخرفة اللفظية، وتتوسّل بالبساطة لتقول الأكثر قسوة وخطورة. إنه أسلوب يُزاوج بين كثافة الشعر وقسوة الواقع، بين وميض الصورة وخراب المعنى، لتولد لغة لا محايدة، بل منخرطة وجدانياً في النزف والمقاومة معاً.
يكثر الحديث عن الموت والا*نت*حا*ر، لكنه لا يُقدَّم كانطفاء بل كفعل تحرّر من القهر أو قطيعة من وضع لا يُحتمل. كما أن الحبّ، رغم ظهوره، لا ينتهي غالباً إلى وصال، بل يُروى بوصفه حالة ناقصة أو مؤجّلة أو افتراضية، هكذا تتحوّل القصّة إلى مساحة يتصارع فيها العبث مع اليقين، والحياة مع الظلال.
بعيداً عن الطرح التقليدي للموت كخسارة أو نهاية مأساوية، تنحرف المجموعة بالنظرة إلى الموت ليغدو في كثير من القصص فعل تحرّر من القهر، أو قطيعة مع وضع/ ألم لا يُحتمل، ففي قصّة «حتمية الموت» في الصفحة الثامنة، يقول القاصّ: «أسعفه ملك الموت بهبة الحياة»، يتّضح في هذه القصّة تعبير عن التناقض الجدلي بين الموت والحياة، الحياة هنا ليست هبة عادية، بل شرطها استلاب الرغبة في الصلاة، أيّ استقطاع جزء من الروحانيات والصلوات التي تعبّر عن الإيمان، أو ربّما عن القوّة الداخلية، هي حياة مشروطة، مع وجود ثمن ما يُفقد.
في «بوح الحياة»، لا شيء مكتمل، لا الموت نهاية، ولا الحبّ خلاص. كلّ شيء مؤقّت، معلّق، متحوّل، لكن ضمن هذا الاضطراب والقلق الوجودي، هناك سعي حثيث لبلوغ لحظة صدق ما، حتى لو جاءت على هيئة عبث، إنها مجموعة تكتب عن الحياة، لكنها تبدأ من الحافّة: حافّة الموت، حافّة الانهيار، وحافّة السؤال، ومن هذه الحافّة يصوغ سربند حبيب جماليته السردية والرمزية، بذكاء فنّي ووعي فلسفي، يجعل من قصصه القصيرة جدّاً عوالم عميقة ومدهشة في آن، ومرآة للقلق الوجودي والتصدّع الاجتماعي والسياسي والديني…
«بوح الحياة» أرشيف سردي شعري، لمرحلة وجودية وإنسانية وسياسية مركّبة، لمجتمع متفكّك متصدّع بفعل الحرب والمنفى، هي شهادة فنّية على هشاشة الإنسان المعاصر، وخاصة الإنسان الكوردي – الكوردي، والسوري – السوري، وأيضاً الكوردي – السوري، في زمن الانهيارات والمفاجئات الكبرى.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.