مقالات

الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (4)

أكتب… وكأنني أنقذ نفسي من الغرق.

أكتب… وكأن الكلمات الحرة الصادقة هي آخر حبل نجاة في هذا الطو*فا*ن الجارف من التزييف واللامعنى .

أكتب لأن الصمت، في زمن التشويه، لم يعد حيادًا، بل صار ج#ريم*ة.

هل يُغفر لكاتب أن يصمت حين يُهان وطنه؟

هل يُعذر مثقف إذا سكت حين تُجزّ الحقيقة أمامه كالشاة وي*نح*ر الصدق كالابل ؟

وهل من الجائز أن نُقايض ضمائرنا بالسلامة، وعقولنا بالرواتب، وحروفنا بالمجاملات والامتيازات ؟

لا والله… ؛ إننا بذلك نكون قد ق*ت*لنا أوّل ما وهبنا الله: الكلمة.

الكلمة التي علّمها آدم، وفهم بها الخلق، وميّز بها الخبيث من الطيب.

الكلمة التي لم تكن يومًا مجرّد حروف، بل وعدٌ، وعهدٌ، وثورة.

يا صاحبي، إنّ الكتابة الحقّة ليست “نشاطًا ثقافيًا” في صالون مخملي، ولا منشورًا يحصد اللايكات، ولا مرآة لغرورنا المعلّب.

الكتابة التي أعنيها، هي تلك التي تُربك، وتُخيف، وتُوقظ، وتُطارد الطمأنينة الزائفة في عقل القارئ، وتنتزع أقنعته قطعةً قطعة .

حين أكتب عن العراق، لا أمارس الحنين، بل المحاسبة .

وحين أستحضر مآسيه، لا أثير الشجن، بل أحرّض على التغيير.

العراق لا يحتاج مزيدًا من الرثاء، بل يحتاج من يصرخ في وجه التاريخ: “قف، لقد سُرقت الحقيقة والحاضر والمستقبل !”

إننا في بلادٍ، صار فيها الماضي كذبة، والحاضر لعنة، والمستقبل مجهولًا مبهمًا مروّعًا.

في بلادٍ، حيث الطفل يولد حاملًا طائفته قبل اسمه، والشاب يشيخ قبل أن يحلم، والمثقف يُستبدل بـ”مؤثر”، والمنبر الديني يُستثمر سياسيًا، والسياسي يزني بالوطن ثمّ يخطب في شرفه … .

فكيف لا أكتب؟

كيف لا أستشيط من الغضب، وذاكرتي مثقلة بصور المذابح، وسجلات الإعدامات، وقبور المجهولين؟

كيف لا أكتب، وأنا أرى أبناء الوطن يُصنّفون ويُقسّمون ويُهانون، ثم يُطلب منهم أن يُحبّوا جلّاديهم؟

أكتب… وأنا أعلم أن الحرفَ الحرّ لا يجد منصّة، بل يجد حبلًا مشنوقًا، أو نافذةً مغلقة، أو طعنة من “صديق”.

أكتب… لأنني قررت أن لا أكون شاهد زور في جنازة وطنٍ يتداعى.

الكتابة الحقيقية — كما قال سارتر — شكلٌ من أشكال الحرية.

لكنها أيضًا، في عالمنا، شكل من أشكال الشهادة والهلاك .

وما أكثر الكُتّاب الذين اغتيلوا، لا لأنهم حملوا سلاحًا، بل لأنهم كتبوا سطرًا لم يُعجب السلطة او قوى الظلام ، أو كشفوا فضيحة أزعجت الطائفة، أو انتصروا للمهمّشين، لا للنافذين… .

لا يوجد قلم نظيف لا يُلاحق، ولا عقل حر لا يُخوَّن، ولا كلمة حقّ لا تُداس في البداية… ؛ ثم تُرفع لاحقًا كأيقونة بعد أن تُسفك الدماء.

لكن… هل يهمّ؟

هل نكتب لنُصفّق؟ أم نكتب لنعري الواقع ونوقظ الغافلين؟

وهل معنى الحياة في أن نعيش طويلًا؟ أم أن نعيش صادقين، ولو كلفنا ذلك أعمارنا؟

أنا أكتب لأجل الذين لا صوت لهم.

لأجل تلك الأمّ التي تنتظر ابنها في السجون منذ عقد ولم تسمع خبراً.

لأجل الشهداء الذين شوّهت أسماءهم في نشرات الأخبار،

ولأجل أطفال الشوارع الذين يتوسدون الأرصفة ويأكلون من نفايات المدينة التي تنام في أحضان اللصوص.

الكتابة قدر، نعم…

ولكنها ليست قدراً أعمى، بل رسالة.

رسالة تبدأ من الذات — من أن تكون صادقًا مع نفسك —

ثم تمتد إلى الإنسان… كل إنسان.

يا صديقي، إن أردت أن تعرف الكاتب الحقيقي،

فلا تسأله عن بيانه، بل عن جراحه.

ولا تبحث في معجمه، بل في ضميره.

وانظر إلى ما كتبه ساعة الهزيمة، لا ساعة النصر،

إلى ما كتبه عندما خسر، لا عندما صُفّق له.

لأن الكلمة لا تُختبر في الرخاء، بل في الشدة.

وإن لم تكن الكتابة نارًا تأكل صاحبها قبل أن تنير الطريق، فهي حيلة لا تُغني ولا تُسمن من جوع.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!