مقالات

أسس التربية السليمة ومداخل بناء المواطن الفاعل – أحمد بوكرين

مما لا شك فيه أن التربية هي أساس بناء الإنسان والمجتمعات، بل بها يتميز عن باقي الكائنات، أو كما قال كانط: “لا يصبح الإنسان إنسانًا إلا بالتربية.”
غير أن التربية ليست بالأمر السهل أو الهيّن، ذلك أنها تتخذ أبعادا متعددة، متباينة ومتشابكة، وترتبط وتتداخل مع مجالات عدة: كالسياسة، والمجتمع، والقيم، والدين، والفن، وغيرها، ثم إن محور التربية هو الإنسان، هذا الأخير الذي يتميّز بوضعه المعقّد والمركّب.
لقد عمل علماء النفس والاجتماع ورجال القانون وغيرهم من الباحثين في التخصصات المجاورة إلى تناول هذا الموضوع كل من زاويته، فتعددت المقاربات والتحليلات، واختلفت الاستنتاجات والرؤى حوله، بحسب الخلفية والسياق والمنهجية الفكرية المعتمدة، غير أن القاسم المشترك بينهم هو رهان بناء الإنسان كذات حرة واعية، مسؤولة وفاعلة، وذلك عبر اقتراح مشاريع فكرية وفلسفية لا يزال أثرها ممتدا إلى اليوم.
ولا يزال مطلب التربية السليمة، القائمة على ركائز متينة، غاية لكل مجتمع يطمح إلى الانعتاق من التخلف والتخلص من الأعطاب البنيوية التي تنخره.
ويمكن القول إن التربية السليمة والصحيحة هي تلك التي تقوم على خلفية فلسفية، علمية، وإنسانية، وتعتمد على مداخل من شأنها بناء الإنسان كذات حرة وفاعلة، قادرة على الإبداع والعطاء، تعيش من أجل قضية ومبادئ سامية لا تخدم الإنسان والإنسانية فحسب، بل تمنح الذات قيمتها، أو على الأصح تخلق معنى لوجودها.
ومن بين المداخل الأساسية التي لا يستقيم بناء المواطن الصالح والفعال إلا بها، هي ثنائية الحق والواجب، باعتبارهما ركيزتين تقوم عليهما المواطنة الحقة. فالمواطن هو من ينعم بحقوق المواطنة كاملة ويتمتع بكل ما تتيحه له القوانين، ما يجعله يحس بالانتماء، وبكونه جزءا من الوطن الذي يعيش فيه، بغض النظر عن معتقداته أو توجهاته السياسية والإيديولوجية والفكرية، وفي المقابل، لا يستقيم هذا الانتماء إلا بأداء الواجب بمعناه الأخلاقي والقانوني؛ إذ لا ينفصل الحق عن الواجب، ووجود أحدهما دون الآخر يترتب عليه نتيجتان:
إما إنسان يؤدي الواجب ولا يستفيد من حقوقه، فنكون أمام مواطن منقوص المواطنة، بل مجرد فرد مُستغَل، خانع وخاضع، أو فرد يستفيد من حقوقه دون أداء واجباته، فنكون أمام مواطن انتهازي، استغلالي، لا يتحلّى بروح المواطنة.
إن العلاقة بين الحق والواجب علاقة وطيدة لا يمكن فصلهما، وإلا فقدا قيمتهما وفعاليتهما، فالعلاقة بينهما تشبه العملة النقدية، إذ لا يمكن فصل أحد وجهيها عن الآخر، وإن حدث ذلك، صارت بلا قيمة أو فائدة، لكن، كيف السبيل إلى تنشئة مواطن متشبّع بالقيم الإنسانية والمواطنة الحقّة؟
يضعنا هذا السؤال في صميم واحدة من أهم رهانات المجتمعات الطامحة لبناء مواطنيها، وهو سؤال المشروع المجتمعي: أي مواطن نريد؟ سؤال كفيل بتحديد معالم الطريق، وتجنيبنا التيه الذي تعاني منه العديد من الدول والمجتمعات التي لا تزال ترزح تحت وطأة التخلف والاستبداد والجهل، وغيرها من عوائق التطور والتقدم.
ومن بين المداخل الرئيسة لتربية المواطن بالمعنى الصحيح:
التعليم: بجعله قائمًا على تكافؤ الفرص بتوفير نفس الإمكانيات، لا على أساس التمييز وخلق الفوارق والطبقات. فحين يعيش المجتمع حالة من الطبقية، تظهر الصراعات وتُجهض كل رغبة في التقدم والإبداع. ذلك أن إحساس المواطن بهذا التفاوت يجعله لا يشعر بالانتماء، بل بالقطيعة والتباعد. بل حتى من يستفيد من الامتيازات، قد يتولد لديه شعور بالاستعلاء والاستغلال. وكلّ ذلك يُفرز نتيجة واحدة: طبقتان متناحرتان، لا يمكنهما معًا بناء وطن يتّسع لجميع أبنائه، بل يولد ذلك الإحباط والتذمر وهدر الطاقات لدى الفقير، والإحساس بالتفوّق والسيطرة لدى الغني. لذا، فإن إقرار تعليم قائم على العدالة والمساواة أولًا، والإنصاف ثانيًا، يُعدّ ركيزة أساسية لترسيخ هذا الوعي.
المساواة أمام القانون: حيث العدالة هي المجال الذي يستشعر فيه المواطن مبادئ الحق، والواجب، والقانون، والمساواة، والإنصاف، وغيرها من مفاهيم حقوق الإنسان. فكلما وُجد قانون يراعي حقوق ومصالح الجميع ويُطبَّق دون تمييز أو محاباة، يكون هناك غرس لقيم المواطنة، حيث يدرك المواطن أن الجميع سواسية أمام القانون، ويتربى النشء على هذا المبدأ، لا على استغلال النفوذ.
التربية الحقوقية: وهي مهمة الحقوقيين، ورجال القانون، والمثقفين، والفاعلين المدنيين، والآباء، لتعزيز الوعي بأهمية الحقوق والواجبات، وترسيخها كثقافة ضرورية لا غنى لأي مجتمع عنها. فـالحق حق مكتسب بفعل القانون والتشريعات، وليس منّة من أحد. والواجب هو تعبير عن روح المواطنة، لا إكراهًا أو عبئًا. كما يجب ألّا يكون الواجب ذريعة للإكراه والتعسّف باسم القانون.
بناءً على ما تقدم، يتّضح أن أساس تقدّم أي مجتمع رهين ببناء مواطن ترتكز أسس مواطنته وإنسانيته على مبدئي الحق والواجب. غير أن هذا المسعى ليس وصفة جاهزة، بل هو سيرورة تقتضي بناء مشروع مجتمعي يستند إلى مداخل متعدّدة، ويرتكز على دعائم أهمها: نظام تعليمي عادل قائم على المساواة والإنصاف ومساواة أمام القانون وترسيخ ثقافة حقوقية حقيقية صحيحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!