وَأدُ حُلُمٍ
لطيف عبد سالم
فِي لَيْلَةٍ تُشبهُ لَيَاليَ كَثِيْرةً مِن شِتَاءِ أحَّدِ سِنينَ أَزْمِنَةِ الجُوَّعِ وَالحَسْراتِ، أخفقَ فِي مُحَاوَلَةِ إدْرَاكِ مَا يُحِيْطُ بِهِ مِنْ أَشْيَاءَ، وَلَمْ يَعُدْ يَتَحَسَّسُ غَيْرَ رَائِحَةِ الدُّخَانِ المُنْبَعِثِ مِنْ مَوقِدٍ؛ لِغَرضِ طَرْدِ البَعُوضِ، بَعْدَ أنْ كُبِلَ بحَبْلٍ نَسِيجيٍ، ورُمِيَ فِي مَكَانٍ يَلفّهُ ظَلاَمٌ دَامِسٌ، رَاحَ يَتَلَمَّسُ مَنْفَذًا يَخْتَرِقُ بِهِ سِتَارَ هَواجِسِهِ وَوحدتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَتهَادَى إلَى أُذُنَيْهِ، وَيُوقِظُ بَعَضَ حَوَاسِهِ غَيْرُ ضَّجِيجِ نَقيقِ الضَّفادِعِ، الّذِي اِمتَزَجَ مَعَ طَنِينِ الهَوَامِ.
رَاعَهُ مَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُ حِيْنَ اِكْتَشَفَ أنَّهُ يَفْتَرِشُ أحدَ أركانِ (طُوْلَةِ)، الألَم الذِي يَعتصِرُ قَلْبَهُ الجَرِيحَ يَزْدَادُ كُلَّمَا اِقْتَرَبَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الطُّوْلَةِ، إحْسَاسُهُ بِاِنْتِزَاعِ إِنْسَانِيَّتهِ يَتَنَامَى حِينَمَا يَتَحَوَّلُ الحَدِيْثُ فِيمَا بَيْنَهُمْ إلَى السَّخْرِيَةِ مِنهُ، أو إلى إظْهَارِ مَا مِنْ شَأنِهِ الشَّمَاتَةُ بِهِ.(1)
مِحْنَتُهُ لَمْ يَكُنْ مَرَدُّهَا ثِقلَ هَذَا الكَابُوسِ؛ فَمَا أحزَنهُ وَسَبَّبَ لَهُ مَا يَكْفِي مِنَ الألَمِ، هُوَ تَعَمُّدُ رَبْطُهِ بِحَبْلٍ مُثَبَّتٍ بِأَوْتَادٍ مَغرُوزَةٍ فِي الأَرْضِ بمَكَانٍ أُعِدَّ لِربطِ الخَيلِ، وَإِيوَائِها، وَإِطْعَامِهَا فِيْهِ.
الحَرَكَةُ هَدَأَتْ كَثِيْرًا فِي مُحيطِ مِحْبَسِهِ، آوَى أغْلَبُ الأهَالِي فِي قَرْيَتِهِ، الّتِي هَجَرَهَا الحُبُّ إلى مَضَاجِعِهم، اللَّيْلُ اِشتَدَّ ظَلاَمُهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا فِي وُسْعَهِ أنْ يَغْمُرَ الرُّوحَ بِالأمْنِ وَالجَمَالِ فِي هَذِهِ البُقْعَةِ البَائِسَةِ.
كَانَ يَطْوِي أَصْعَبَ لَحَظاتِهِ فِي تِلْكَ الظُلْمَةِ الحَالِكَةِ، وَهُوَ يُكثِرُ مِنَ النَظَرِ إلى الأُفُقِ البَعِيْدِ؛ عَلَّهُ يَسْتَرِقُ بَصِيْصًا مِمَا يَبْعَثُ القَمَرُ، أنهكَهُ التَحْديقُ طَويلًا مِنْ دُوْنَ جَدْوَى، فَلَا قَمَرٌ مُسْتَدِيرٌ فِي السَمَاءِ، وَلَا حَتَّى نُّورٌ فَضِّيٌّ بَاهِتٌ خَلفَ حُجُبُ الغُيُومِ الكَثِيفَةِ.
الوَقْتُ قَدْ تَجَاوَزَ مُنتَصَفَ اللَّيْلِ بِأكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ، أصْوَاتُ ثُغَاءِ الحِملانِ الوَلِيدَةِ تَتَدَاخَلُ مَعَ نُبَاحِ الكِلَابِ، وَأصواتُ الدِيَكَةِ هُنَا وَهُنَاكَ، رَائِحَةُ الاِسْتِلاَبِ تَمَلَأُ المَكَانَ، الّذِي تَوَشَّحَ بالوَحْشَةِ، أصبَحَ يَشْعُرُ بِإعْيَاءٍ شَدِيدٍ، سَيْلٌ مِنَ الدَّمْعِ المُتَقَطِّعِ بَدَأَ يَنْهَمِرُ مِنْ عَينِيهِ، وَكأَنَّهُ يُنْصِتُ لهَمَسْاتِ نَايٍّ مَفْجُوعٍّ؛ بِسَبَبِ شِدَّةِ الدُّخَانِ المُنْبَعِثِ مِنَ المَوْقِدِ المَلِيءِ بِعُروقِ النَّبَاتِ، وَالمُطّالِ.(2)
لَا شَيْءَ يَتجلَّدُ بِهِ، وَهوَ يَتَجَرَّعُ مَرَارَةَ الذُّلِّ وَالمَهانَةِ فِي مِحنَتِهِ غَيْرُ التَّمَسُّكِ بالصَّبْرِ لِمُؤَانِسَةِ وَحْشَتهِ، الَّتِي لَا يَخْتَرِقُ سُكُونَها غَيْرُ صَّهِيْلِ حِصَانٍ جَامِحٍ، أو حَرَكَةِ مُهْرَةٍ تُحَاولُ تَفَادِي مَا يُثِيْرُ فِي نَفْسِهَا الخَوفَ.
تَنَهَّدَ وَهُوَ يَهِمُّ بِاِسْتيَاءٍ بَالِغٍ فِي اِسْتِنْهاضِ بقَايَا قُواهِ المُنهَكَةِ مُحَاوِلًا تَقْليصَ مِساحَةِ جِسمهِ بِلَمِّ أطرَافهِ صَوبَ مُقدِّمتهِ؛ عَلَّهُ يُخَفِّفُ مِنْ وَطْءِ شِدّةِ لَفَحَاتِ نَسَمَاتِ الشِّتَاءِ المُوْجِعَةِ.
ذاكِرَتُهُ الحُبْلَى بنَّشِيجِ الأيَّامِ تَسْرَحُ بِفَضَاءٍ فَسِيْحٍ، فِي غَمْرَةِ تَوَارُدِ خَوَاطِرهِ المَشْحُونةِ بِصُوَرِ ظُلْمِ الإقْطَاعِ وَجَوْرِ جَحِيْمهِ، أغْمَضَ عَيِّنِيهِ؛ طَمَعًا فِي إغْفَاءَةٍ قَصِيْرَةٍ، اِسْتَسْلَمَ لِلنَوْمِ سَرِيْعًا، اِلتبسَ عَلَيْهِ الحُلُمُ بِغَيْرِهِ، بَعْدَ أنْ أيقظتهُ رَفْسَةٌ مَسْمُومَةٌ تَزَامَنَ فِعْلُ وُقُوعِهَا عَلَى خَاصَرتِهِ مَعَ نَشَازِ أصْوَاتِ ثُلّةٍ مِنَ الرِجَالِ:
– أَيُّهَذَا الشَّقِيُّ.. الْمَحْفُوظُ أَمَرَ بِجَلَائِكَ بَعِيْدًا عَنِ القَرْيَةِ!.(3)
***
______________
(ا) الطولة: لم أجد في معاجم اللغة العربية كلمة (طولة)، لكن هناك (الطول)، وهو الحبل الذي تربط الدابة به، والذي يرونه ألا يكون قصيرا، ولعلَّ كلمة (الطولة) جاءت توسعا من مسمى حبل الربط إلى المكان الذي يربطون فيه حيواناتهم، ومما تقدم، فإنَّ الطولةَ تسمية محلية لحظيرة الخيل، التي تستخدم كمأوى للجياد في المناطق الريفية، وهي عبارة عن بناء طيني صغير الحجم، مفتوح من الأمام، ومن دون سقف، فضلًا عن تميزه بعدم انتظام أركانه الثلاثة.
(2) مَطَل الحبلَ ونحوَه مَطَلُ مَطْلاً: مدَّه، ويستخدم المطال في القرى العراقية كوقود للطبخ والخبز والتدفئة، حيث تقوم النساء بصناعته على شكل أقراص من فضلات الحيوانات، ثم تترك لتجف. وبحسب الباحثين تعود هذه الصِناعة إلى البابليين والسومريين في العراق، قبل أن يلحق بهم الفراعنة في مصر باستخدامها.
(3) يطلق على شيخ القبيلة عدة تسميات والقاب منها: المحفوظ، طويل العمر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.