هل ما زالت فلسفة ماركس محلّ ثقة؟
يمكن لأيّ شخص أن يتفلسف طالما أنَّه يطرح أسئلة صحيحة ويفكّر بعمق كافٍ. وقد وفَّرت مواقع التواصل الاجتماعي في عصرنا الرقمي هذا، العديد من المقولات القصيرة الموجزة، والتي لا تفعل الكثير لتفسير نظريات الفلاسفة عن العالم، ناهيك عن تغيره. كتب كارل ماركس في ربيع عام 1845في نهاية مقاله “موضوعات عن فورباخ” وكان شاباً في العشرينيات من عمره: “الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسّروا العالم بأشكال مختلفة، ولكن المهمة تقوم في تغييره”.
وهذا الكلام استدعته صورة تمثال نصفي بالحجم الطبيعي للفيلسوف الألماني كارل ماركس في حقل معشوشب في ضواحي مدينة موسكو. رأيتُ التمثال على أحد المواقع الإلكترونية، فأعجبتُ بشكله وإتقان صنعته، فرحت أبحث عنه، فاهتديتُ إلى صفحة إلكترونية لمُزارع روسيّ، حيث وجد التمثال في مشغل صديقه النحات في موسكو، فحمله في سيارته وجاء به إلى مزرعته في ضواحي موسكو، ونصبه على قاعدة من جذع شجرة. وأعتقد من وجهة نظر شخصية بأن المُزارع الروسيّ كان حكيماً بفعلته تلك، لأنّّ ماركس كان يحب النزهات الطويلة مشياً على القدمين مع أسرته في أيام الأحاد الربيعية في ضواحي مدينة لندن حيث كان يعيش.
نظر ماركس إلى الإنسان بوصفه صاحب نزعة مادية وروحية معاً. ولكن تجريد الإنسان من حاجاته المادية وتغريبه في وطنه لأنه لا يملك غير قوّة عمله في نظام الإنتاج الرأسمالي، جعل ماركس يركّز على الحاجات المادية أولاً. وهذا هو التفكير المشترك مع حكماء الشرق، التفكير في حرمان الناس من حاجاتهم المادية والنضال لإشباعها، بمعنى العمل على إيجاد الراحة للخلق. وهؤلاء كانوا في زمن ماركس العمال، وكانوا لا يزالون السواد الأعظم من سكان أوروبا. كان ماركس مرهف العاطفة كغيره من الحكماء، ومن ذلك حبّه الشديد لزوجته جيني، كان قلبه يتوهّج عشقاً لها، ولعلّ السبب أنّه كثيراً ما كان يفارقها لكثرة مهامه، والفراق يؤجّج الحب. وقلبه فيما عدا ذلك عامر بالوجدان مهموم بمعاناة المعذّبين في الأرض.
من أجمل ما في الفلسفة أننا جميعاً قادرون عليها. بإمكان أيّ شخص طرح أسئلة فلسفية حول الواقع، والحقيقة، والصواب والخطأ، والغاية من كلّ ذلك، وكثيراً ما نفعل ذلك، ولو للحظات وجيزة خلال اليوم. أفضل الكتب والبرامج التلفزيونية والأفلام تلك التي تأتي مصبوغة بالفلسفة، وتغرس أفكاراً تبقى في الأذهان طويلاً بعد إغلاق الكتاب أو حتى بعد أن تتلاشى الشاشة. مع أن أيّ شخص يستطيع دراسة الفلسفة، إلا أنه من الصحيح أيضاً أنّ ليس كل شخص بارعاً فيها. عند دراسة الفلسفة، يقتصر الأمر على جزء صغير منها (وهو جزء غالباً ما يُخصّص للحكماء والمثقفين في أقسام الجامعة) بينما يُقضي الباقي في تعلّم ما قاله الفلاسفة الآخرون وأسبابه. وهذا منطقي بالطبع. عندما تتعلّم الرسم أو الكتابة، تتعلّم أولاً التقنيات الأساسية، إذ عليك المشي قبل أن تركض.
المشكلة أن الإنترنت يعجّ بفلسفةٍ غير مقروءة، وأغلبها مُساء فهمه. إنها سلسلةٌ من الاقتباسات مُقتطعة من سطرٍ واحد من كتابٍ مُعقّد للغاية. إنها حكمة، لكنها خارج سياقها ومُجرّدة من فروقها الدقيقة. إذ تنتزع حسابات ملايين المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي أقوالاً مُحكمة من مجلداتٍ ضخمةٍ مُدعّمةٍ بحججٍ قوية، لتُقدّم ما يُعادل: عِش، اضحك، أحب. ولكي نساعدك في توضيح الأمور، ولتوضيح النقطة بشكل أكثر اكتمالاً، إليك مُقتبساً من كارل ماركس شائعاً جداً ويُساء فهمه أيضاً: “الرأسمالية سيئة، ومتوحشة أيضاً”. بالنسبة للكثيرين ممن لا يعرفون كارل ماركس، أو من قرأوا أعماله على عجل وبنظرة عابرة، يبدو مناهضاً للرأسمالية، يحرق البنوك ويبني المتاريس. لا شك أنّ كارل ماركس لم يكن يريد الرأسمالية، لكن هذا لا يعني أنه لم ير فيها جانباً إيجابياً. بل إنه أدرك أنها جزء مهم وجوهري في تقدّم التاريخ.
يُقدّم بيانه الشيوعي في مستهله اعترافاً مطوّلاً، وإن كان على مضض، بنجاحات الرأسمالية. يُشير ماركس إلى اتساع شبكات الصناعة والتجارة والاتصالات؛ وتوفير التعليم؛ وسيادة القانون. الرأسمالية هي ما يجمع الشعوب المتحاربة والمتناحرة لتشكيل حكومة واحدة، وقانون واحد، ومصلحة طبقية وطنية واحدة. لكن أهم ما فعلته الرأسمالية هو أنها شكَّلت نوعاً من التدمير الخلّاق.
وقد أضاءت فلسفة ماركس بعضاً من أماكن العتمة في حياة الإنسان، ويبدو لي أنّ العالم ينحو، بعد أكثر من مئتي سنة على ولادة ماركس، باتجاه إعادة الاعتبار لطريقته في التفكير. لأنّ الفلسفة الماركسية هي احتجاج ضدَّ العتمة، احتجاجٌ ضدَّ عبودية رأس المال، احتجاجٌ مُتشرّبٌ بالإيمان في الإنسان، وبقدرته على تحرير ذاته من تلك القيود الثقيلة التي تُكبِّل حياته والسعي لتحطيم هذه القيود والانتقال إلى مجتمعٍ خالٍ من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
يعلم كارل ماركس بأنّ الرأسمالية تُسلّع كلّ شيء بحيث يذوب كلّ ما هو صلب في الهواء، ويُدنّس كلّ ما هو مقدّس. إنها تُهدم آلهة الماضي ومقدّساته، وتستبدلها بالربح والصناعة. هذا التحطيم للأصنام هو ما سيُشكّل بدايةً جديدةً تُتيح إعادة هيكلة المجتمع على أساس المساواة. علاوةً على ذلك، فإنّ تقديس الرأسمالية للربح هو ما يُولّد الفائض والإنتاجية اللازمين لإعادة توزيع الموارد على نحو شيوعي. الشيوعية ليست مُنزلةً كشيءٍ قائمٍ بذاته، بل هي نابعة من رأسماليةٍ في مراحلها الأخيرة. بالطبع، بالنسبة لكارل ماركس، الرأسمالية استغلالٌ سافرٌ ووقحٌ ومباشرٌ ووحشيٌّ للبشرية. إنها مليئةٌ بالمشاكل، وتميل إلى إظهار أسوأ ما فينا. لكنها أيضاً شرٌّ لا بدّ منه في الطريق إلى عصرٍ أفضل.