مقالات عن مانكيش

منكيش الجمال والعطاء /الحلقة السابعة “طبيعة المسكن قديما وحديثا”

الدكتور عبدالله مرقس رابي
منكيش الجمال والعطاء
الحلقة السابعة / طبيعة السكن قديما وحديثا

خاص/ مانكيش كوم

الدكتور عبدالله مرقس رابي
استاذ وباحث اكاديمي

كانت فلسفة الانسان قديما ، القوة وشريعته الفناء للضعيف ،فلم يُسمح لاي انسان خارج المدن الكبيرة والعواصم أن يقوم بالعمران،حيث كان الانسان مخلوق للحرب فقط ولتوسيع مملكته،وقلما كان يعيش مستقرا ليمارس الزراعة ،بل اكتفى في المراحل الاولى بقطف ثمار الغابة ليعيش عيشة هنيئة آمنة مطمئنة ،وبعدها كانت الجماعات البشرية المستقرة في المدن متأهبة للحرب ليُخضعوا أهل القرى لسلطتهم ويستعبدوهم ويسلبوا اموالهم ونساءهم.وهكذا تعودوا على الحروب المتواصلة ،فيخربون ويدمرون ما بناه الاخرون من العمران والسدود والجداول ،ويقلعون ويتلفون ما زُرع ،فلم يكن المجال كافٍ لبناء القصور في قرية مثل منكيش في الازمنة الغابرة،حيث رضي سكانها بالعيش الشغف والامتعة القليلة استعدادا للطوارىء والكوارث ليهربوا بما خفَ منها الى اية جهة ينجون بانفسهم ويرتاحون فيها.

هكذا كانت القوة تعبث بالارض فسادا وخرابا ،فكم من المدن والقرى هُدمت ،وكم من هياكل العبادة أصبحت أعشاشا للطيور ولا يعرف موقعها اليوم ،وكم مرة تم بناء قرى ومدن على انقاض اخرى وتبدلت المجموعات البشرية اثنيا وعرقيا ولغويا ودينيا كلها وفقا لقانون تنازع البقاء” لجارلس دارون” الذي كان هذا التنازع الميزة الاساسية للمجتمعات البشرية قديما.وكما لاحظنا في الحلقة السابقة كم من اطلال لقرى اندثرت في محيط منكيش ولم نعرف كم من مرة هدمت منكيش نفسها وما الجماعة البشرية التي سكنتها في كل مرحلة من حيث خصائصها اللغوية والاجتماعية والثقافية الاخرى، وهذا ينطبق على كل المستوطنات البشرية .

كانت الدور قبل عام 1920 في منكيش بسيطة جدا مبنية من اللبن والطين ومسقفة بالخشب وفوقها طبقة من التراب ،وتستند الى اعمدة من الخشب ،وكانت عبارة عن طابق واحد.لجأت الاسرة المنكيشية كغيرها من القرى الاخرى في المنطقة الى هذا النمط من الدور والمواد الداخلة في البناء من الطين والخشب المتوفر في العقار لتحافظ على درجة الحرارة في الصيف والشتاء ،ولحماية افرادها من الاخطار المتوقعة كالنهب والسرقة . تراوحت مساحة الدار ما بين “50 متر مربع الى 120 متر مربع”واختلفت من دار الى اخرى،وكل دارِ مقسمة الى مجموعة من الغرف تتراوح من “3 – 4 ” غرفٍ.وبلغت مساحة الغرفة الواحدة بين “4-6 متر مربع “.

غالبا ما استخدمت الاسرة غرفة واحدة للنوم ،واخرى مخزنا للمواد الغذائية والاثاث البيتية ،أما الغرف الاخرى خُصصت للحيوانات وعلفها الذي كان عبارة عن حشيش مجفف مشدود ” بثيلي ” أو التبن ،أما اوراق شجر البلوط المجفف كانت تُترك على شكل أكوام خارج الدار “كبشتا ” .كانت الغرف مُظلمة تخلو الى الشبابيك ،وقد تُركت فتحة في الجدار بشكل دائري أو مثلث لغرض الاضاءة والتهوية.وقد استخدم الاهالي للتدفئة ايام الشتاء الموقد “كنونا “،ومن جراء الدخان المتصاعد منه كانت جدران الغرفة تسود ويتلوث المكان، ولكن بالرغم من ذلك كان للموقد دورا اجتماعيا مهما سنتحدث عنه لاحقا .

أما بعد عام 1920 حصل تغير في نمط وشكل الدار في منكيش بسبب الاتصال المباشر من الاهالي في المدن ودخول التعليم والصحة ،وعلى أثر ذلك بدأ التحسن في دور البلدة ،فقد لجأ الناس الى بناء الطابق الثاني الذي استخدمته الاسرة لها للمعيشة وأما الطابق الارضي خُصص لأيواء الحيوانات وخَزن علفها،وبهذا ابتعد أفراد الاسرة عن الحيوانات ومضارها.

وقد تكون الطابق الثاني من “2 – 3 غرف نوم ،غالبا تتوسطها غرفة تتصل بالمدخل الخارجي مباشرة ،وهي بمثابة موزع لغرف الدار الاخرى وسميت “صوبا ” وطرأ تحسن في بناء السقوف ،فدخلت الحصران في التسقيف ،وزُودت الغرف بشبابيك كبيرة الحجم من ” نصف متر مربع والى متر مربع واحد ” وأصبحت مصنوعة من الزجاج ومؤطرة بالخشب المقطوع هندسيا ،وحلت المفاتيح الحديدية للابواب محل المفاتيح الخشبية ولكن كبيرة الحجم.

اعتز المنكيشي بداره قديما ،اذ كان من حينٍ لآخر يعمل على اصلاحها أو صيانتها حفاظاَ عليها من التصدع والانهيار ،فبعد مرور بضعة سنواتٍ يُبدل ساكنها الحطب الذي يوضع تحت طبقة التراب في السطح وسميت العملية محليا “مقلوبي دكاري ” أو يُبدل الشلمان الخشبي ” الاسفندار ” الذي كثُر في بساتين منكيش .أو تبيض الجدران بتراب ابيض سنويا “كانت النساء تحصل عليه من انفاق تُحفر في أرض ذات تراب ابيض اللون “مقرخانة ” ويُمزج مع الماء مثل الكلس”

وأما أرضية الغرف يتم اكساؤها سنويا بطبقة طينية رقيقة ذات لون يميل الى البُني وتُدلك بحجرة صغيرة ملساء سميت “شندوختا ” لتصبح بمستوى واحد ، ومنذ السبعينات بدأت ظاهرة جديدة ،هي بناء أرضية الغرف بالسمنت وأُستحدث في معظمها حمام ومرافق صحية ،مما خففت هذه التطورات من أعباء المرأة المنكيشية في الترميم والصيانة ،ولهذا الاهتمام بالدور السكنية نراها قاومت عاتيات الزمن عبر مئات السنين وبقيت صالحة للسكن الى ان هجرها أهلها الى الدور الحديثة في البلدة أو الى خارج منكيش، وظلت وتركت تتعرض لعوامل الطبيعة الهدامة فانهارت ولكن لاتزال بعض منها شامخة لاستمرار الاعتناء والصيانة فيها من قبل اصحابها أومؤجريها.

وأما الطراز الجديد من البناء بدأ ظهوره في منكيش منذ الاربعينات من القرن الماضي عندما شُيدت داران حديثتان من الطابوق والكلس ،واحدة لمدير الناحية وأخرى لكاتب الناحية مقابل المدرسة الحديثة على الشارع العام المبلط تبليطا حديثا،وظل النمط التقليدي للبناء هو السائد الى بعد عام 1975 حيث بدأت النهضة العمرانية فاستحدثت دورٍ على الطراز الحديث مبنية من الطابوق أو الحجر والسمنت وتحتوي على حديقة صغيرة وغرف نوم واستقبال ومجهزة بحمام ومرافق صحية حديثة واستمرت الحالة الى ان بلغت الدور المبنية خارج البلدة القديمة 370 داراَ اضافة الى الدور القديمة في البلدة (كما أشرنا اليها في الحلقة السابقة) وتمتاز هذه الدور الحديثة بنماذج هندسية متنوعة على رغبة مالكها أو مبنية من قبل الدولة بحسب الطراز الموحد وصُبغت بالوان زاهية فأزدادت البلدة الخضراء بهاءاً وجمالاً .

..

 

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!