آراء متنوعة

مرحبا بغداد.. ارسلي حصتي!

بغض النظر عن المرويات المثالية، لسنا شعباً حالماً ولا طوباويين. نحن أبناء واقع معقد، نحلم فقط بما ينبغي أن يكون بديهياً: حياة كريمة تقوم على العدالة والكرامة. نعلم جيداً أن عراقاً آخر كان ممكناً، يعكس تنوّع سكانه وقوتهم ضمن سلطة تمثلهم جميعاً، لا عراقاً تُحتجز فيها الحقوق رهينةً لصراع سياسي لا ينتهي.

على مدى سنوات، تكررت الخلافات بين أربيل وبغداد حول ملف النفط والغاز، حتى باتت هذه الاشتباكات القانونية والسياسية جزءاً من المشهد المعتاد. لم يعد الملف مجرد قضية اقتصادية بل تحوّل إلى مرآة تعكس عمق الأزمة البنيوية في النظام السياسي العراقي. فالمجال السياسي، بعكس الثقافي، لا يحتمل التسويات الغامضة، بل يتطلب حسابات دقيقة ورؤية شاملة تتجاوز الانفعالات اللحظية.

في العراق، كل تصريح أو قرار يحمل أبعاداً تتجاوز لحظته، تتضاعف آثاره داخلياً وخارجياً. ورغم أن سياسة “تخفيف الفوران” قد لا تكون حلاً كاملاً، إلا أنها قد تكون الخيار الواقعي في ظل انسداد الأفق. فكما يقول المثل: “أقصى فائدة في ظل القيود”، وهو ما لم تأخذه بغداد بجدية، إذ واصلت سياسات التعطيل والتقييد بدل البحث عن حلول توافقية.

نحن في موقع استراتيجي في خريطة العالم، لكنه أيضاً أحد أكثر بقاعه تعقيداً. وبعد عقود من الحروب والنزاعات، اتفقت القوى الداخلية والخارجية على أن الاستقرار بات ضرورة، لا خياراً. ومع ذلك، لا تزال أنظمة الحكم التقليدية هي الحاكمة، في وقت يفترض أن يعمل النظام الاتحادي على بناء هوية سياسية مشتركة تستوعب التنوع، لا أن تتجاهله.

لقد اختبر العراق أشكال حكم متعددة، من الملكية إلى الديكتاتورية، وصولاً إلى النظام الاتحادي الذي أُعلن مع الدستور الجديد. إلا أن التطبيق ظلّ هشاً ومشوهاً. تُرفع شعارات الاتحادية، لكن تُمارس مركزية متسلطة. تُقر الحقوق، لكن تُعلَّق بالقرارات. بل بدا وكأن العراق لا يزال عاجزاً عن تقبّل فكرة أن لإقليم كوردستان الحق في استخراج غازه وبيع نفطه دون أن يُمنع.

ويذهب البعض أبعد من ذلك، فيربط هذا الفشل برؤية جيوسياسية أوسع، مفادها أن مشروع “الشرق الأوسط الكبير” لا يمكن تحقيقه إلا بتهيئة أنظمة سياسية اتحادية هشّة، تكون قابلة للتفكيك أو إعادة الهيكلة مستقبلاً.

لكن بعيداً عن النظريات الكبرى، تبقى الحقيقة أكثر بساطة وإلحاحاً: العراق يعاني من أزمة حكم. أزمة لا تُحل بالدعم الخارجي، ولا تُدار من واشنطن، بل تحتاج إلى إعادة بناء من الداخل. فطالما ظل “مصنع الأزمات” يعمل بكامل طاقته في بغداد، ستبقى نداءات الشراكة والمواطنة تصطدم بجدران “المركزية” الصماء.

ربما حان الوقت لأن تسمع بغداد هذا النداء البسيط من مواطن يشعر بالإقصاء: أرسلي حصتي.. ليس من النفط فحسب، بل من العدالة أيضاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!