مقالات

قراءة في كتاب -كيف تحلل نصاً أدبياً- – كايد الركيبات

تنبع القيمة الأدبية والمعرفية لكتاب “كيف تحلل نصاً أدبياً” لصدوق نور الدين، الصادر عن دار القلم ببيروت، من منهجه العلمي في تحليل النصوص الأدبية، إذ يتجاوز هذا المنهج الأساليب النمطية والقراءات السطحية، ويستند إلى ثلاثة مستويات مترابطة للتعامل مع النص: نقد آليات القراءة التقليدية، تأصيل مفهوم التفاعل النصي، وتأسيس منهج تأويلي حر ومنضبط في آن واحد.
منذ الصفحات الأولى، يضع المؤلف يده على الخلل الجوهري في طرائق تدريس الأدب وتحليله، وهو ما يسميه “التأطير النصي” الذي يطغى على صلب النص، ففي معظم المنظومات التعليمية، يُمنح الاهتمام الأكبر لتفاصيل حياة الكاتب والظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية المحيطة بالنص، في حين يُهمَل النص نفسه ككيان لغوي وجمالي مستقل، قال المؤلف في هذا السياق: “لقد دأب التحليل الأدبي في المؤسسة التعليمية، على إيلاء الأهمية والأولوية لما يمكن أن يسمى بالتأطير النصي… والأصل أن ما يتولد من التأطير النصي إهمال النص موضوع التحليل” (ص: 5-6). يفتح هذا النقد الباب أمام تصور جديد للعملية التحليلية، قوامه العودة إلى النص لا إلى ما يحيط به، والإنصات لمعانيه بدل إسقاط معاني مسبقة عليه.
ويُعمّق المؤلف رؤيته النقدية حين يلفت النظر إلى خطأ شائع يتمثل في إلباس النصوص معاني نابعة من تصور القارئ لا من بنيتها الداخلية، قال: “الإشكال الأساس الذي يمس النص الأدبي يتمثل في إصباغنا لمعنى نحمله نحن، على معنى كامن في النص. وكأن الأمر يتعلق بنص نحن الذين قمنا بكتابته” (ص: 15)، يؤسس هذا الطرح لمفهوم تأويلي يعتبر القراءة مشاركة في بناء المعنى، لا فرضاً له، ويعيد الاعتبار لدور النص كفاعل أساسي في إنتاج دلالاته.
في هذا الإطار، يبرز المؤلف أهمية العلاقة الجدلية بين القارئ والنص، تلك التي لا تقوم على التلقي السلبي، بل على فعل تفاعلي يعيد بناء النص وفق مرجعيات القارئ وتجربته الجمالية، قال: “لا تتحقق القراءة إلا في/ وبالعلاقة بين قارئ ونص… إن القيمة الحقة للقراءة تكتمل بتوفر النص على حد أدنى يسوغ ممكنات فعل القراءة بعيداً عن الاجتزاء” (ص: 24-25). بهذا يصبح النص الأدبي كياناً مفتوحاً لا يكتمل إلا في لحظة التفاعل القرائي، حيث تُنتج قراءات متعددة ومتغيرة بحسب السياقات.
وإلى جانب هذا التفاعل القرائي يرفض الكاتب فكرة التأويل النهائي للنص، وبرأيه أن كل قراءة هي احتمال جديد، وتوليدٌ لنص ثانٍ من رحم النص الأصلي، قال: “ما يتولد عن التحليل النصي كتأويل نهائي، لا ينبغي أن يُعد نهائياً. ذلك أن في النهاية موتاً للنص” (ص: 30). هذه الرؤية تمنح النص حياة دائمة وتجدداً مستمراً، وتفتح المجال أمام قراءات متعددة لا تُبطل إحداها الأخرى، بل تغنيها وتوسع أفقها.
أما على المستوى المنهجي، فإن الكتاب يقدم تحليلاً دقيقاً لما يسميه بـ”منزلقات التحليل النصي”، ومنها مثلاً الاعتماد الزائد على المضامين بدل الصياغات، وإقصاء البعد التخيلي للنص، يؤكد في هذا السياق أن: “التحليلات النصية… تركز على المضامين وليس على الصياغات، ما دامت الحمولة النصية فكرية وليست جمالية” (ص: 40)، مما يؤدي إلى قراءة فقيرة، تختزل النص في أفكار عارية من لبوسها الفني والجمالي.
وفي باب تصنيف النصوص، يطرح المؤلف إشكاليات دقيقة تتعلق بالتمييز بين الجنس والنوع، وأثر ذلك في اختيار المنهج الملائم للتحليل، فيوضح أن “كل نص يتطلب منهجاً خاصاً يتكيف مع بنيته وجنسه”، وأن فرض نموذج تحليلي موحد يؤدي إلى “إفقار للنص وللمعاني التي ينتجها” (ص: 58).
أخيراً، يقدم المؤلف تصوراً متوازناً للتأويل النصي، يجمع بين الحرية والانضباط، ويقول: “إن عملية التقييد خطوة نحو عقلنة المتحدث عنه… فكل تأويل ولادة لنص جديد، تتحكم فيه مخيلة القارئ” (ص: 63). وبهذا يُعيد التأويل إلى مكانه الطبيعي كعملية مشتركة بين القارئ والنص، محكومة بحدود بلاغية لا تلغي التعدد، بل تنظمه.
لقد سعى صدوق نور الدين إلى تحرير فعل التحليل الأدبي من قيود النمذجة الجامدة والقراءات السطحية، داعياً إلى إعادة إنتاج المعنى ضمن شروط تفرضها اللغة والتخييل والأسلوب. ومن هنا تنبع القيمة الأدبية لهذا الكتاب، إذ لا يقتصر على عرض آليات التحليل، بل يقدّم تصوراً نظرياً متكاملاً حول العلاقة التفاعلية بين القارئ والنص، تأسيساً لقراءة تشاركية تنظر إلى النص بوصفه كياناً حياً ومتجدداً، ويجعل القارئ شريكاً فاعلاً في فهم النص، بعيداً عن أي فوضى في التأويل، ويحفز على ممارسة تحليلية واعية، منفتحة، ومتجددة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!