مقالات دينية

عظة الميلاد

الكاتب: المطران سعد سيروب
عظة الميلاد

المطران سعد سيروب
ان الحدث الذي يحتفل به المسيحيون في الميلاد ليس مجرد احتفال بظهور الله وتجسده بين الناس، بل انه احتفال بميلاد طفل لم يكن أحد قادر على أن يعطيه للانسانية إلا الله وحده. طفل يأتي من الله وعن الله يتكلم ويخبّر الناس عن الله. لذا فان ميلاد الله الرب وتجسد الاله الكلمة لا يمكن ان تُأخذ بمعنى مجازي، بل بكل ما فيها من واقعية وتاريخية كما يصفها الانجيل لنا ويعتبرها “علامة” “آية” لبني البشر. يذكر الانجيلي لوقا لثلاثة مرات في رواية ميلاد يسوع المسيح بان العذراء “ولدت ابنها البكر وقمّطته واضجعته في مذود” (لوقا 2/ 7، 12، 16)! صحيح ان نوراً من السماء اشرق على الرعاة، وان صوتاً من السماء رنّم المجد لله في العلى وعلى الارض السلام والرجاء الصالح لبني البشر، إلا ان هذا هو مجرد أطارٍ لصورة تريد ان تكشف لنا المعنى الموجود في اللوحة نفسها.
ان العلامة التي يعطيها الملاك الى الرعاة لهي في غاية من البساطة، علامة فقيرة تدّل على فقر الانسانية ذاتها: يولد لنا ولد في فقر “الحضيرة”، يولد لنا ولد، ابن لعائلة فقيرة، يولد لنا ولدٌ لا موضع له في البيت. هذا هو طفل الميلاد! ولكن على الرغم من كل هذا، فان الطفل الذي وُلد هو المسيح: مخلص العالم ورب الكل هو طفل فقير وابن الفقراء ولد في الفقر. اذا لم يحافظ المسيحيون على هذه العلاقة بين الطفل والرب، بين الفقر والمجد، فانهم لم يفهموا حقيقة الميلاد. للأسف، ان التجربة التي يتعرض لها المسيحيون هي في اخفاء الفقر العاري لهذا الطفل وربط المجد الالهي بالقوة والنجاح، إلا ان أيقونة الميلاد تفند بشكل عميق هذه الرغبات.
إن بساطة الميلاد هي ما يجعله عامّاً وشاملاً. فهو رسالة بسيطة في متناول الجميع، بدأً بالرعاة الفقراء في بيت لحم، ولكنه ايضاً البشرى لسرٍّ كبير، لان ابن الانسان الذي يولد سيعيش طيلة حياته كإنسان: سيمشي بين البشر وهو يعمل الخير، سيجمع الناس بالله وبالآخرين صانعاً عجائب وآيات ترتبط بحاجات الانسان الاساسية: يكثر الخبز والخمر، ويعيد الصحة للمريض، ويصالح الانسان بالطبيعة، ويعيد أخوة الانسان الى أصالتها، ويؤكد قيمة الحياة ويعلنا أقوى من الموت.ولهذا يقول الرسول بولس بان ظهور يسوع المسيح في العالم غايتها “لتعلمنا كيف نعيش في هذا العالم” (تيطس 2/ 11-12).
يحتفل المسيحيون في الميلاد بان تحقيق هذا السرّ – ظهور الله في جسد يسوع – هو وعد وضمان لما ينتظرونه: ان الله هو في انسانيتنا وان انسانيتنا دخلت في عالم الله. لذا فان فرح الميلاد ليس فرح وعيد للمسيحيين فحسب، بل انه عيد الشعب كله، والانسانية جمعاء. ليس الميلاد ملكاً للمسيحيين فقط دون الآخرين، لا يمكن ان يحبسو الرجاء لهم، بل هو لكلّ قلب. فاذا كنا نؤمن بان في يسوع صار الله الخالق كالمخلوق، والابدي دخل في الزمني، والقادر صار ضعيفاً، فان هذا كله لكي يصير الانسان ابن الله. هذه هي البشري التي يريد المسيجيون ان يعطوها الى اخوتهم البشر: “صار الله إنسانا لكي يصير الانسان إلهاً”. لذا على المسيحيين ان يذهبوا الى الآخرين، ان يعيشوا في وسطهم بنفس الفرح الذي عاشه الله في وسطنا بابنه يسوع، عمانوئيل، الله معنا، الذي لا يمكن ولا يجب ان يصير أو يتحول الى الله ضدّ الآخرين.
أن نعيّد الميلاد هو ان نصير اناس افضل، نقوم ونوجد على اساس العلاقة مع الآخرين وأحترامهم. انها حياة غنية بالمعاني قادرة على ان تترجم بالاقوال والافعال جمال النور الالهي الذي ولد في يسوع المسيح، وتكون صدى لذلك النور الذي سطع في بيت لحم ويسطع اليوم في ظلمات عراقنا، ظلمات الخوف واللامعنى واللامسؤولية.
لقد دخل الله تاريخنا لكي ما يوجهه الى الخلاص، لقد أخذ ضعفنا البشري لكي ما ينتصر على الشر والموت. بهذا الوعي المسيحيون مدعوون الى ان يكونوا شهودا لهذا الفقر والتواضع للقاء الآخر مدركين بان ما يجمعهم بالآخرين هو أعظم بكثير من الذي يفرقهم.
فالفرح في الميلاد ليس امتيازا مسيحياً، بل مسؤولية وعطية وهبت لهم لكي ما يتقاسموها. ان دعوتنا هي ان نتقاسم ونحرّر عطايا ايماننا. الميلاد هو دعوة للرجاء والامل، وهذا الامل هو أمل ورجاء للجميع.
..

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!