مقالات

سلامٌ هشٌّ.. كالزجاج يلمع ويُخفي شظايا الحرب – بوتان زيباري

في قلبِ الشرق الأوسط، حيث تُنثرُ الذكرياتُ كرمادِ الحروب، يلوحُ “سلامٌ” بين إس*رائي*ل وإيران، كسرابٍ يخدعُ العطشانَ ببريقِ المياه، ثم يتركهُ عاريًا تحت شمسِ الواقع. الاتفاقُ الذي أعلنه ترامب، كُتِبَ بحروفٍ من نارٍ وقصاصاتِ ورقٍ دبلوماسيّ، لكنَّ جذوةَ الصراع لم تنطفئ، بل اختبأت تحت الرماد، تنتظرُ نفخةَ ريحٍ لتشتعلَ من جديد. فالحربُ لم تُدفَنْ، بل نُكِّسَتْ أعلامُها مؤقتًا، بينما تظلُّ الأسبابُ الجذريةُ كالألغامِ المزروعةِ تحت ترابِ الهدنة، جاهزةً للانفجارِ عند أولِ خطوةٍ خاطئة.

البرنامجُ النوويُّ الإيرانيُّ، ذلك الشبحُ الذي يُطارِدُ ليالي تل أبيب وواشنطن، لم يختفِ رغمَ الضرباتِ الأمريكية. فالمادةُ النوويةُ التي اختفتْ من المنشآتِ المدمرةِ قد تكونُ انتقلتْ إلى قلاعٍ تحت الأرض، كالأفعى التي تنسلُّ من جلدها القديم. ترامب يُصرخُ “انتهى البرنامج!”، لكنَّ صمتَ المنظمات الدولية يشي بأسئلةٍ معلقةٍ كسيفٍ فوق رقابِ الجميع. وإيران، التي تئنُّ من جراحِها، قد تُحوِّلُ تلك الموادَّ إلى سلاحٍ وجوديّ، كالغريقِ الذي يتشبثُ بحطامِ السفينة. ترامب يهددُ بضربةٍ جديدة، وكأنه يُعيدُ سيناريو الحربِ إلى نقطة الصفر، بينما التاريخُ يُعلّمنا أنَّ العقوباتَ والقنابلَ وحدها لا تُنهي الأحلامَ النووية، بل تُحوّلها إلى كابوسٍ جماعيّ.

وفي زوايا المشهدِ الخلفية، تُلوحُ ظلومةُ التنينِ الصيني، الذي يلعقُ جراحَ إيرانَ بلسانِ النفطِ والعقودِ الاقتصادية. واشنطن تُرخي القيودَ قليلًا، فتتنفسُ طهرانُ الصعداء، لكنَّ هذه الأنفاسَ ليستْ هبةً أمريكية، بل جزءًا من لعبةِ الشطرنجِ الكبرى مع بكين. الصينُ، العدوُّ الأكبرُ لواشنطن، تمدُّ خيوطَها نحو طهرانَ كي تُحافظَ على توازنِ القوى، وتُضعفَ قبضةَ العقوبات. ترامب يُرسلُ إشاراتٍ متناقضةً كالعاشقِ الحائر، بين تشديدِ الخناقِ وفتحِ نوافذَ للتهوية، وكأنه يقولُ لإيران: “عيشي.. لكنْ لا تتنفسي بعمق!”.

أما إس*رائي*ل، فتبدو كالصقرِ الذي يرفضُ أن يُغمضَ عينيه عن الفريسة. نتنياهو يُريدُ “زوالًا مطلقًا” للنظامِ الإيراني، لا مجردَ تعطيلٍ لبرنامجه النووي. الهجماتُ السيبرانية، والخطاباتُ التحريضية، ودعمُ المعارضةِ في الشتات، كلُّها أدواتٌ لصنعِ “ثورةٍ ملونة” تحت شعارِ التحرير. لكنَّ ترامبَ، الذي يُفضلُ الاتفاقَ على الفوضى، يبدو كمن يُمسكُ بزمامِ صقرٍ جامح، يحاولُ ترويضهُ قبلَ أن يُطلقَ مخالبَهُ في جسدِ المنطقة. والغريبُ أنَّ إس*رائي*لَ نفسَها لا تُريدُ سقوطَ النظامِ الإيرانيِّ فحسب، بل تُريدُ إعادةَ تشكيلِ الشرقِ الأوسطِ كلهُ وفقَ رؤيتها، حيثُ تُصبحُ القدسُ عاصمةً أبدية، والفلسطينيون ذكرى باهتةً في كتبِ التاريخ.

وفي وسطِ هذه العاصفة، تقفُ تركيا كشجرةٍ عتيقةٍ تحاولُ أن تثبتَ جذورَها بين رياحِ المصالحِ المتضاربة. أردوغان، الذي يتحدثُ بلغةِ الدبلوماسيةِ والحوار، يعلمُ أنَّ أيَّ حربٍ جديدةٍ ستُغرقهُ بموجاتِ اللاجئين، وتُهددُ أحلامَهُ في سوريا. أنقرةُ تُراقبُ بحذرٍ تحركاتِ إس*رائي*لَ في الجنوبِ السوري، وتُحذّرُ من تحويلِ سوريا إلى ساحةٍ لتصفيةِ الحسابات. لكنَّ تركيا نفسَها ليستْ بريئةً من الأجندات، فهي تُريدُ إعادةَ إعمارِ سوريا بشركاتِها، وإعادةَ تشكيلِ جيشِها بيدِها، كي تُمسكَ بورقةٍ رابحةٍ في لعبةِ النفوذ. ومع ذلك، فإنَّ كلماتَ فيدان: “لا نريدُ مواجهةً مع إس*رائي*ل”، تُذكّرنا بأنَّ السلامَ الحقيقيَّ لن يولدَ إلا بموتِ الأطماعِ القديمة، وولادةِ ثقافةٍ جديدةٍ تُقدسُ الحياةَ فوقَ الحجارةِ والحديد.

فهل هذا السلامُ “الميتُ عند الولادة” قادرٌ على أن يتحولَ إلى طفلٍ حيّ؟ التاريخُ يُجيبُ بأنَّ الهدناتِ في الشرقِ الأوسطِ تشبهُ الزجاجَ الهشَّ، قد يُزيّنُ النوافذَ لبرهة، لكنه ينكسرُ عند أولِ عاصفة. فما لم تُحلَّ جذورُ الأزمات، من البرنامجِ النوويِّ إلى أحلامِ الهيمنة، ومن صراعِ القوى العظمى إلى جراحِ الشعوبِ المنسية، فإنَّ الشرقَ الأوسطَ سيبقى ساحةً مفتوحةً للحروب، تُدفنُ فيها الأجيالُ تحت ركامِ الخطاباتِ والوعودِ الزائفة. وكما قالَ الشاعر: “السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ”، فهل ننتظرُ أن تُكتبَ فصولُ السلامِ بمدادِ الدمِ مرةً أخرى؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!