مقالات

“رحيل”.. حين تهمس الروح بالحياة وتختبر الحب كفناء – أوزجان

في روايتها “رحيل”، الصادرة عن مقام للنشر والتوزيع، القاهرة، طبعة 2021، تفتح الكاتبة سمر حسين علي، المعروفة أدبيًا باسم جيني حسين، نافذة سرية على الذات البشرية وهي تتأمل رحلتها من الارتباط إلى الانفصال، من التيه إلى التجلي، من الحب إلى الفناء الروحي. وقد عُرضت الرواية في عدة معارض عربية من بينها معرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث حظيت باهتمام نقدي من جمهور الأدب النسوي والتأملات الوجودية.

رحلة الداخل: النص كبوح صوفي

تتخذ جيني حسين من “ناجي” بطل الرواية أداة روحية لرصد زلازل النفس، فتجعله لا يروي فحسب، بل “يتطهّر” بالكتابة. تتوزع الرواية بين اعترافات سردية ومذكرات، لكنها ترتقي أحيانًا إلى مقام المكاشفة الروحانية، حتى ليبدو السرد وكأنه مجلس صوفي يدور فيه الذكر بين الذنب والحب، بين الأرض والغياب.

“رحيل” ليست فقط امرأة. “رحيل” هي رمز: للحب حين يعلو على الجسد، وللأنوثة حين تتجاوز التملك، وللحضور حين يكون غيابه أكثر امتلاء من أي اقتراب. تشبه “رحيل” في تجلياتها ليلى في خيال مجنونها، أو رابعة العدوية حين تنظر إلى الله بعين العاشق لا العابد.

في الحكمة المستترة: رواية عن ندمٍ غير مُعلن

الرواية مشبعة بالأسى الذي لا يُقال، بالأسئلة التي لا تُجاب، وبذلك تلامس جانبًا بوذياً في بنائها، إذ تتكرر مشاهد الرحيل والموت (رحيل الزوجة، وفاة الشقيقتين، الفقد المتتالي)، وكأنها تقول للقارئ: كل شيء فانٍ، فلا تتشبث بشيء إلا إن كنت قادرًا على فراقه.

الحب في “رحيل” هو تجربة عدم امتلاك، ونوع من “العدم المح*بو-ب”، وهو تعريف صوفي بامتياز.

اللغة: ماء ووشوشات وسر الورد

لغة جيني حسين ليست حادة، بل هي لينة كوشوشة أم لطفلها قبل النوم. تُطرز عباراتها بعناصر حسيّة: العطر، البخور، الخيول، الورد، المطر، الموسيقى. ويكاد القارئ يشعر أن الرواية تُقرأ بأنفك وبصرك وأذنك، قبل أن تُقرأ بعقلك.

المشهدية العالية ليست استعراضًا، بل امتداد للحالة التأملية، حتى تبدو الفيوم مثلاً – ببحيرتها المالحة – كأنها صحراء الروح التي تنبت فيها أول المهور، وتحمل اسم الحبيبة “رحيل”، وكأن الجسد إذا سُمّي باسم المح*بو-بة، يغدو كائنًا قابلاً للعبادة.

المرأة في الرواية: ليست كائنًا يُمتلك بل سرٌّ يُحتفى به

“ماجي” كانت الزوجة، و”أريج” كانت الخيانة، و”رحيل” هي الذات العليا التي تحرّر ناجي من ذكورته التقليدية. في كل ظهور لرحيل، تختبره الحياة وتسحبه من شهوته إلى بصيرته. ومع كل اختفاء لها، يعود إلى هشاشته الأولى. إنها امرأة تحضر لتُربّيه وتغيب لتُنضجه.

في هذه المفارقة، تحتفي الرواية بالأنثى لا بوصفها أنثى، بل بوصفها تجربة من المعرفة المتعالية.

الزمن في الرواية: ذاكرة تعيد تدوير الألم

لا يتقدم الزمن في “رحيل” وفق منطق كرونولوجي، بل يدور في حلقات. وكأن البطل في كل فصل لا يتقدم، بل يعود للبحث عن سؤال أول لم يجد له جوابًا: لماذا أحب؟ ولماذا أفقد؟.

رحيل هي صدى لكل النساء اللواتي مررن في حياة ناجي، ولكنها وحدها التي تعيد صياغة معنى الوجود في حياته. هي الخاتمة التي تبدأ بها الرواية، والمفتاح الذي لا يُفتح به شيء.

أشعر أنا كقارىء بأن رحيل اختارت الكتابة كفعل عن الشعور بالذنب نجم عن نضج ومكاشفة تعيد بناء الروح.

“رحيل” رواية من نوع خاص، تشبه أدعية منتصف الليل، أو الحكايات التي ترويها الأرواح لبعضها بعد الموت. ليست رواية حب بالمعنى التقليدي، بل رواية حب متعذر، غير مكتمل، يتآكل من الداخل ويشتدّ بقدر ما يعجز عن التحقق.

هي نصٌّ يتجاوز الجسد إلى السرّ، ويتجاوز السرد إلى المكاشفة، ويتجاوز الواقع إلى ما يشبه التصوف العاطفي الأفلاطوني الذي يسكن في غياهب الروح.

وفي زمن الروايات السريعة، تُعيدنا سمر حسين إلى الرواية التي تُقرأ ببطء، وتُتنفّس، وتُسكن الروح، كما لو كانت وردة نادرة تفتحت على جدار القلب.

معلومات النشر

• العنوان: رحيل
• الكاتبة: سمر حسين علي (جيني حسين)
• الناشر: مقام للنشر والتوزيع – القاهرة
• الرقم الدولي: ISBN 978-977-6750-19-7
• سنة النشر: 2021
• شاركت في: معرض القاهرة الدولي للكتاب ومعارض أدبية إقليمية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب فقط، ولا تعكس آراء الموقع. الموقع غير مسؤول على المعلومات الواردة في هذا المقال.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
التقيمات المضمنة
عرض جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!